الإثنين 7 سبتمبر 2015 / 18:27

سؤال في الحقيقة الأخلاقية

لم يعد قتلاً منسوباً إلى الفظاعات التي أنزلتها الأقدار في بشر، ولا ثأر التاريخ من أمّة، ولا هزء الزمن من قوم. لم يعد قتلاً، لم يعد مجرد قتل أعمى يرتكبه بشرٌ ظلمةٌ نحو بشرٍ مظلومين، أو كثرةٌ متفاخرةٌ نحو قلة مهيضة الجناح، أو قلّةٌ مأفونةٌ نحو كثرة أسيرة؛ هذا الذي يحدث في أرض العرب.

هذا الذي حلّ في أرض الرافدين وزحف على الشام، فأتى على الطفل قبل أن يكون له ذنب، وعلى المرأة وهي تصنع الحياة، وعلى الشابة والشاب وهما يرسمان بالألوان، وعلى الرجل والشيخ والعجوز التي في سرير أيامها الأخيرة، وأخذ في طريقه الحيوان والحجر، وحتى الهواء، هذا الذي خيّم على العراق والشام، وألغى الحدود بين العقل والجنون، مختطفاً إلى جحيمه المهول جغرافيتين هما مهد في الحضارة وهما في أزمنتنا الحديثة أرض الفكرة العربية.

هذا الذي يحدث في المشرق العربي جعل العرب كلهم في مصيدة الأمم. إنه لأمر دُبِّر بليل.

***
بيد المستبد الصغير المأجور عند أمم أخرى اختطف الاستبدادُ، الفكرة العربية وأفسدها. أما وقد تصدعت دولة الطغيان، وتشقق كرسي الطاغية وتهدّمت جدران قلعته عن حريق ودمار يحيطان بها كسوار، فهل نترك الفكرة التي طالما كانت عروتنا الوثقى، وحلماً وهّج خيال الأجيال المتطلعة إلى مكان تحت الشمس لأمّة لم تكن مهملة، ولكنها كانت صانعة حضارة. هل نستعيد الفكرة العربية ولا نتركها مخطوفة، أم نتنكر لها نحن أيضا، ونعمل فيها تحطيماً، ونكون شركاء لمن طالما كان ديدنهم تحطيمها وتفكيك عرى الثقافة العربية والاجتماع العربي، إما لثأر قومي قديم، لبس اليوم لبوس العمامة السوداء، ونادى أشباح التاريخ لتكون صاحبة الثأر من نسلنا الحاضر. أو تحصينا لمشروع لصوصي أقام هيكلا أسطورياً على أنقاض حياة واقعية، ثم رفع بينه وبين العالم جدارا يحميه من قوة الحقيقة.

ها نحن، إذن، شعوب يفترسها غزاةٌ وطغاة وأمة تنهبها أمم. ولا خلاص من دون اعتراف نسلنا بقوة الحقيقة.

***
وما كان للغزاة أن يبلغوا عتبة البيت ويطأوا بساط الأهل، ويُعملوا السكاكين والبلطات في أعناق الفتية والأطفال، لولا أن الاستبداد أدخل حصانه الخشبي إلى ساحة المدينة وصرنا نتلهى على كراسي المقاهي في حلّ أحجية الحصان وأحجية الاستبداد، فمنّا من سماه المستبد العادل، ومنّا من امتدح بدعته الغريبة، ومنّا من نافق وهو عليم، ومنّا من حملته صرخته العزلاء إلى أقبية العذاب والموت.

***
أما وبات الأعداء بين ظهرانينا، وصاروا الحكام الآمرين، يديرون الحرب ضد الناس، ويُنْطِقون الدمية التي أدخلت الحصان إلى البيت، بوصفها صاحبة الأمر، إن في دمشق أو في صنعاء أو بيروت أو العراق، فإنّ زمنا "عربياً" مزيفاً يقدّم لنا نفسه، الآن، ويطالبنا بأن نحني رؤوسنا للغزاة ونرضخ لما حدث، أو فالمصير المشؤوم.

***
سألت جاري الإنكليزي، يعمل محررا في راديو الـBBC ما هي الحقيقة العالمية اليوم؟
عندما تغير طائرات بالصواريخ المدمرة على بيوت في ضاحية صغيرة كدوما في ريف دمشق، وتنشر الدمار والحرائق والموت بأمر من حاكم البلاد المقيم على بعد 3 كيلومترات فقط من مكان الضربة، ما هو رد الفعل، ما هي حقيقة رد الفعل؟ لنتخيل أن هذه الطائرات تغير على ضاحية أكتن في غرب لندن! حدث لا يمكن تخيله هنا، ولكن يمكن رؤيته هناك على شاشات التلفزيون في كل يوم تقريباً، من دون أن يضيف ذلك أيّ مشاعر إضافية على تلك التي تحركت فينا يوم أمس، أو أول أمس. ما هي الحقيقة الأخلاقية التي يؤمن بها العالم، إذن؟!