الخميس 10 سبتمبر 2015 / 23:23

الراقصة التي اعتقلت بسبب نشاطها السياسي

هي فتاة صغيرة تربّت في الاسماعلية، تدعى بدوية محمد علي النيداني، تربّت وسط أسرة بسيطة، انتقلت للقاهرة بعد وفاة والدها الذي كان يدللها وأخذها أخوها من بعده فجعلها خادمة في المنزل وكان يعاملها بعنف، فلم يكن أمامها سوى التمرد على هذا الوضع فتذهب للقاهرة لتبحث عن الراقصة سعاد محاسن التي زارت يوماً الاسماعلية لتقدم عرضاً هناك وطلبت أن تعمل بفرقتها وبالفعل عينتها كومبارس في الفرقة وظلت ترقص معها إلى أن ذهبت إلى فرقة بديعة مصابني التي حققت لها شهرة تجعل من سليمان نجيب يرشحها في رقصة صولو (كاريوكا) فيصير اسمها فيما بعد تحية كاريوكا نسبة إلى الرقصة التي اشتهرت بها..

ظلت تختار ما تريد في الوقت الذي تريده، مثلما أخذت قرار الهروب لتعمل بالفن وتحددت الأسرة استطاعت أن تتحدى العادات وتتزوج كثيراً لتصل برقم قياسي 14 زيجة من فئات وطبقات اجتماعية مختلفة ولم تنجب أطفالاً وتبنت طفلة عاشت معها .. لذلك هذه الشخصية عندما تجد موقفاً سياسياً تستطيع أن تقوم بفعل شيء للتعبير عن رأيها كانت تفعل دون خوف.

وهذا ما جعل باحثاً ومفكراً كبيراً مثل ادوارد سعيد يكتب عنها دراسة في مجلة "واجنزنبهتر" السويدية في يونيو 1991، "تحية كاريوكا مثل أم كلثوم، تحتل موقع الرمز المرموق في الثقافة الوطنية المصرية".

ويقول أيضاً عنها وعن قيمتها فيما قدمت: "إن تحية كاريوكا ترى ـ وهي على صواب فيما أظن ـ أنها جزء من نهضة ثقافية أساسية، وحركة إحياء وطني في الفنون ارتكزت على حركة سعد زغلول الليبرالية المستقلة، وعلى ثورة 1919".

وجعلت أيضاً المخرجة الكبيرة نبيهة لطفي تصنع فيلماً تسجيلياً عنها يشارك فيه عدد كبير من المثقفين والكتاب والمخرجين مثل الفنان التشكيلي عادل السيوي والمخرج يوسف شاهين والكاتب الصحفي صلاح عيسى والكاتب المتمرد صنع الله ابراهيم والمفكر محمود أمين العالم .. يجتمع كل هؤلاء ليتحدثوا عن تحية كاريوكا، إذاً هذه ليست شخصية عادية أو راقصة ترقص لتثير الغرائز ولكنها شخصية لها كيان مستقل جعلت كبار المثقفين يهتمون بما تفعل أو تقول.

حياتها السياسية والاعتقالات بدأت بعد زواجها من الضابط مصطفي صدقي بعدة أشهر .. وجدت البوليس الحربي يقتحم عليها المنزل ويجد منشورات أنكرت هي معرفتها بها، ولكن تم اعتقالها 100 يوم وأثناء تواجدها تعرفت على مجموعات يسارية وطلبة ينتمون للتيار الشيوعي أخذت تبث روح التمرد على السلطة دون خوف، وبعد خروجها شاركت في مظاهرات الطلبة وكانت ترسل لهم طعاماً، كما كانت تشارك في الهلال الأحمر كنشاط تستطيع أن تخدم من خلاله الطلبة المتظاهرين.

ذات مرة دخلت كازينو فوجدت الملك فاروق اندهشت ولم تصمت، ذهبت إليه وقالت مكانك ليس هنا مكانك في قصر الملك. ترك الملك فاروق المكان سريعاً متوجهاً نحو باب الخروج.

ورغم انتقادها لنظام الملك فاروق لم يسلم عبد الناصر من انتقادها ومعارضتها له عنما شعرت بأن الثورة تبعد عن المسار الذي حددته والمبادئ التي أعلنها الضباط الأحرار فقالت في مذكراتها: "حينما قامت الثورة كنت من مؤيديها، ولكن حينما انحرفت عن طريق الحرية والديمقراطية رفضت ذلك، واشتركت في عمل منشورات قلت فيها "ذهب فاروق وجاء فواريق"، وقبض علي وسجنت في زنزانة انفرادية، لكني كنت وزعت أكثر من 150 ألف منشور كانت في بيتي".

ولم تكن مواقفها ضد السلطة فقط ولكنها رفضت أن ترقص في لبنان أمام كمال اتاتورك رئيس وزعيم تركيا لأنه أهان السفير المصري أمامها فانصرفت من الحفل.

قربها من المثقفين وحركة الطلاب جعلها تنخرط في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وارتباطها باليسار في الخمسينيات هو ما جعلها تحمي المعارضين للنظام مثل الصحفي صلاح حافظ التي خبأته في منزلها.

وهي من خبأت السادات في فترة هروبه عندما كان يعمل مع الفدائيين مع أخيها، وعندما أصبح رئيساً قال له في أحد جلساته معها (أنا كنت بشتغل مع أخوكي) يقصد عمله مع الفدائيين ولكنها وقفت، وقالت "يا ريس انت كنت هربان"، فضحك السادات.

وعندما أصدر مبارك تعديلاً لقانون 102 الخاص بالنقابات اعترض المثقفون والفنانون وذهب مجموعة منهم كان من بينهم تحية إلى القصر الجمهوري في تظاهرة لتعلن رفضها للقانون، ما اضطرهم جميعا للإضراب عن الطعام حتى وافق مبارك على مطالبهم ..

وهذا التمرد والثورة في سلوكها السياسي انعكس بالضرورة علي رقصها فقال الموسيقار محمد عبدالوهاب عنها "إن كاريوكا حررت الرقص الشرقي من تأثير الأجنبيات، ومثلها في ذلك مثل سيد درويش الذي حرّر الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك"، وهذا الاحتراف في فن الرقص ما جعل ادوارد سعيد يستلهم الفرق بين المبتدئات البائسات والمحترفات فقال:

"إن جوهر فن الرقص العربي التقليدي، شأن مصارعة الثيران، ليس في كثرة حركات الراقصة وإنما في قلّتها"، و"حدهن المبتدئات أو المقلدات البائسات من يونانيات وأمريكيات يواصلن الهزهزة والنطنطة الفظيعة هنا وهناك مما يُحسب إثارة وإغراء حريمياً، فالهدف يتمثّل في إحداث أثر عن طريق الإيحاء أساساً".

ورحلت تحية تاركة روحاً متمردة استطاعت أن تجمع بين الرقص والسياسة والثقافة فصارت أيقونة ثقافية يستلهمها فنانون كثيرون في لوحاتهم وقصائدهم.