الأربعاء 30 سبتمبر 2015 / 22:28

عزيزي العربي "خللي بالك من عقلك"

قيل: "وصفة العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه، ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق من فوقه في طلب البر، وإذا أراد أن يتكلم تدبّر، فإن كان خيراً تكلم فغنم، وإن كان شرّاً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه".

العقل الذي يتألف من خلايا عصبية يبلغ عددها نحو 100 مليار خلية متصلة ببعضها البعض والذي لا نستخدم منه إلا 1.2 % فقط كبشر عاديين. العقل الذي يدرسه العلماء ويقسمونه إلى عقل واعي وعقل اللا وعي، العقل الذي يستطيع أن يستوعب إلى عدد 12 فكرة في نفس اللحظة والعقل اللاواعي والذي يستطيع أن يستوعب ما لا يقل عن 17 مليون فكرة.

هل خلق الله كل هذا عبثاً؟؟ العلم يدرس العقل الباطن الذي لم يفك أحد أسراره إلى اليوم ونحن ما زلنا نحيل عقولنا الواعية إلى التقاعد الإجباري عن العمل والفهم والإدراك والوعي.

في ضوء تلك الحقائق العلمية وبمحاولة إسقاط صفات العاقل على الواقع، نجد أن سمات العاقل قد غابت، العقل تلك الهبة الربانية التي منحها الله سبحان وتعالى للإنسان وكرمه بها، والتي يقف العلم عاجزا عن إدراك كيفية عمله، والذي يكتشف العلماء كل يوم جديد في أسراره ويحاولون أن يرسموا أين يمكن أن تصل البشرية في حال عرفت كيف توظف العقل وتستثمره لخير نفسه وخير الكون والبشرية جمعاء.

العقل نزع أصحابه صلاحياته وأصبح متحجراً بالعصبية والتحزب والأهواء، وأحياناً تغزوه رياح خماسين الحماقة، حيث تصدرت الأهواء المشهد، وحركت الغوغائية تفاصيل الحدث، وجّمد البعض عقله، ورمى البعض الآخر بإمكانياته العقلية في سلة التبعية، ومنح البعض الآخر حق استخدام عقله لمن يديره ويسيطر عليه، وفئة أخرى تظن ان اليد واللسان بديلان لاستخدام العقل، فمدوا أيديهم بالأذى، وألسنتهم بالهجاء والهجوم والإساءة والشتم والتطاول، جعلوا اليد واللسان امتداد لمهمة العقل وذلك إن لم يكونا بديلاً له.

هنالك ماراثون يعيشه البعض للكلام ومباريات الثرثرة، إنهم يفتون ويتكلمون ويدلسون ويضللون، ويسيرون في طريق موحش يغيب فيه التدبر واليقظة عن خطورة الكلمة ومكوناتها، وقدرتها على أن تكون لبنة في بناء أو معول للهدم، الكل يتحدث بتحلل من الفهم والمعرفة أو بهما، بعلم أو بإفلاس، بمصداقية أو بعدمها، لا أحد يكترث في ماراثون الكلام، الكل يلهث يحاول الوصول إلى نتيجة ويتبوأ مكانة ويظهر نفسه بإصراره على أن يدلو بدلوه في كل شيء.

لا أحد يسكت عن الشر، بل لا أحد لديه القدرة على شمولية الرؤية أو عمق الإدراك أو نقاء الوعي، واتساعه ليعرف مصدر الشر ومكامنه، ويتعرف على مستصغر الشرر، وما يمكن أن يؤدي إلى حرائق صعب إطفائها.

كل شيء أصبح انتقائي، يخرجه البعض من سياقه ويخضعه لمعيار الهوى، ثم يطلق العنان للحديث والتفسير بحسب الأهواء بعيدا عن العقل، يصبح عنيفا مع من يكرهه، متهكما مع من يعاديه، شديد الخصومة مع من يملك ضده ضغينة أو مشاعر سلبية، اختلط الحابل بالنابل وأصبح كل من يريد أن يتحدث يصدر شعار الوطنية.

من أحرقوا أوطانهم وأثاروا الاحتقان ونشروا النقمة، وألّبوا العواطف وشحنوا النفوس، فعلوا ذلك وهم يرفعون شعار الوطنية والوطن والعدالة، من أجّجوا الطائفية في أكثر من وطن عربي ومن وضعوا أيديهم في يد العدو الخارجي ومن خدموا أجنداته، فعلو ذلك وهم يرفعون شعار العقيدة والدفاع عنهم.

الكل يرفع شعار الدين والكل يرفع شعار الوطنية.

غابت دول وأصبحت أرضاً خصبة تحترق بالطائفية والمذهبية والحزبية، وخسرت بعض الدول كل مقومات وجودها وأصبح شعب الدول المنهارة في أكثر من أرض عربية في صراع دموي كل طرف يكيل من خلاله الاتهامات إلى الطرف الآخر والكل ينادي بالوطنية ويدعي أنه يمثل صحيح الدين وأنه يمثل العقيدة السليمة، في مزايدات يرفع فيها الجمع شعارات الوطنية أحياناً والدين أحياناً أخرى بحسب من يخاطبونهم ومن يريدون أن يخطبوا ودهم فالإنسان أسير عاطفته الدينية يستطيع أن يصدق كل من يتصدر المشهد مدافعا عن الدين.

غاب العقل عن المشهد فأصبح الوطن العربي يغرق في أتون الطائفية لأن كل طائفة تظن أنها الناجية وكل طائفة تحارب الأخرى ، وأصبحت الطائفية تحدد أحكام البعض ، حيث يظن أولئك بانهم امتلكوا مفاتيح الجنة والنار وبأنهم المدافعين حصريا عن الدين ، لا اعتراف بقانون ولا بمؤسسات دولة ولا بمراكز إفتاء، الحماقة التي أوجدت لها مكاناً والتي غيّبت العقل أصبحت القاعدة التي ينطلق من خلال منصتها البعض إلى سماوات الفتنة وفضاءات مفتوحة من إثارة الأزمات وافتعالها وصناعة الخبر وفبركته وكل ذلك بحماقة تخضع العقل لهوى النفس أو لحسابات خسيسة، تجنّد نفسها للعدو الخارجي.

الخطر الحقيقي ليس في مواجهة كارثة أيا كان نوعها فلقد حما الإنسان نفسه حينما استخدم عقله الخطر الحقيقي حينما يغيب العقل فالكل معرض حينها للاندثار والتلاشي، الخطر حين يصبح العقل الإنساني مهجورا تسكنه أشباح الماضي، أو يستقر فيه الخوف، أو تراوده أوهام وهلاوس سمعية وبصرية لا تمت للواقع بصلة.

إن كنت ممن غاب عقلهم، فعليك بإدراك مصيبتك، والبحث عما فقدته، فخطرك لا يقف عندك ولكن خطرك على مجتمع وسلامة بشر وأمنهم واستقرارهم.

وإن كنت ما زلت تمتلك أهليتك وعقلك، وما زلت محافظا على سلامته فاحذر من لصوص العصر الذين يبحثون عن سرقة الفكر بأكثر من وسيلة ببساطة عزيزي المواطن العربي: "خللي بالك من عقلك".