الخميس 1 أكتوبر 2015 / 18:39

الحياة من دون عبد الناصر

لقائل أن يقول، مع الذكرى الخامسة والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر قبل أيّام، إنّ أمور العرب ما كانت لتشهد هذا السوء لو أنّ الزعيم المصريّ على قيد الحياة، أو لو أنّ نهجه استمرّ بعد رحيل شخصه.

والحال أنّ كثيرين، لا سيّما ممّن تتجاوز أعمارهم الستين، يرسلون هذا التحسّر بمناسبة وبغير مناسبة، مستعرضين ما آلت إليه الأحوال في العراق وسوريّا وليبيا واليمن وسواها لكي يستنتجوا الخلاصة المذكورة أعلاه.

لكنْ مهلاً. ذاك أنّ الكوارث الكبرى التي يعانيها العرب، خصوصاً عرب البلدان المنكوبة، إنّما وجدت في جمال عبد الناصر مؤسّسها وأباها.

 فهو، منذ انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، وخصوصاً منذ تفرّده بالحكم في 1954، أسّس شخصنة السلطة ومركزتها بعدما كانت الحياة السياسيّة المصريّة، على رغم سائر نواقصها الكثيرة والكبيرة، تضجّ بالأحزاب والإيديولوجيّات وأدوات التعبير المتنافسة والمتصارعة.

ولئن بدأ ضابط انقلابيّ كالليبيّ معمّر القذّافي حياته السياسيّة، بعد انقلاب الفاتح من سبتمبر 1969، بوصفه ناصريّاً، فإنّ الذين استولوا على الحكم في البلدان الأخرى إنّما قلّدوا جميعاً عبد الناصر: لا في اعتماد الانقلاب العسكريّ قاطرة للوصول إلى السلطة فحسب، بل أيضاً في إنشاء أنظمة تشبه نظامه من حيث إمساك الدولة بمفاصل الحياة العامّة وتحريمها كلّ خروج عن الحزب الواحد والزعيم الأوحد.

كذلك كان عبد الناصر مؤسّس الاستعمال الشعبويّ للقضيّة الفلسطينيّة بهدف تحويل الأنظار عن نظامه والتناقضات المتولّدة عنه. وكان من نتائج النهج هذا سَوق العرب إلى الهزيمة المدوّية في يونيو 1967، حين تمكّنت إسرائيل من إذلال ثلاثة بلدان عربيّة دفعة واحدة، واحتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربيّة وهضبة الجولان السوريّة.

وهنا أيضاً حذا صدّام حسين وحافظ الأسد وسواهما حذو عبد الناصر: فكما اتّجه الأخير إلى اليمن لأنّ اليمن هي طريقه إلى فلسطين!، أطلق صدّام حروبه من إيران إلى الكويت، فيما تمركز الأسد في لبنان، وكلّ هذا بالحجج "الناصريّة" نفسها.

طبعاً، كانت الحقبة الناصريّة حقبة قوّة واعتزاز في ظاهرها، على عكس ما نشهده اليوم من تفكّك وضعف معلن. إلاّ أنّ ما بدأ مع عبد الناصر تزييفاً للواقع، مع قليل من الإنجازات الفعليّة، هو ما انتهى وينتهي اليوم كأنّه النتيجة الطبيعيّة لذاك المسار.

فالناصريّة وجدت ما يسترها في عنصرين متلازمين لم يعد أيٌّ منهما متوفّراً في يومنا هذا: فمن جهة، هناك وقوعها في حقبة ما بعد الاستقلالات وصعود الزعامات الوطنيّة التي رسملت على الإنجاز الاستقلاليّ. فكمثل سوكارنو ونيكروما وموديبو كيتا وسيكوتوري وبن بلّه، افتتح مع عبد الناصر أفقاً جديداً لم يكن قد اختُبر من قبل. وها نحن نعيش راهناً نهايات هذا الأفق وانسداده الضخم.

ومن جهة أخرى، تلازمت تلك الحقبة مع الصعود الكونيّ للاتّحاد السوفييتيّ في مرحلة ما بعد الستالينيّة. فلئن كان ستالين قد أقام "الكتلة الاشتراكيّة" في شرق أوروبا ووسطها، فإنّ خليفتيه خروتشوف وبريجنيف هما اللذان مدّا النفوذ السوفياتيّ إلى المنطقة العربيّة وعموم "العالم الثالث". وهذا العنصر إنّما أرسى استقطاباً دوليّاً تمكّنت زعامات كالزعامة الناصريّة أن تستفيد منه وتبني عليه. أمّا الآن فهذا كلّه حديث من الماضي.