الأربعاء 7 أكتوبر 2015 / 19:06

روائية إسرائيلية وشاعر عربي

يطيب للصحافة عادة أن تتصيد المواقف الفارقة، ومن الفارق للصحافيين رؤية روائية إسرائيلية في جوار شاعر عربي. الأمر مفتوح على توقعات غير محسوبة على خلفية عداء وجودي بين العرب والإسرائيليين لم يكن يوماً بلا سبب.

لم يحدث أن التقيت الروائية الإسرائيلية ليزي دورون لا لقاء عابراً، ولا لقاءاً مدبراً، أو معداً له مسبقاً، كتلك اللقاءات التي طالما لهثت مجموعات وجماعات ومثقفون أوروبيون وراء جعلها ممكنة، من باب ترتيب فرجة أدبية ما، في مهرجان أو ندوة ما، في مكان ما من عاصمة ما، تحت عناوين فضفاضة، ومرات براقة تتغافل عن حقيقة الصراع بين العرب والإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية.

يحدث أن يأتي شخص في مكان عام ويقدم نفسه إليك. وهو ما حدث مع السيدة دورون. كان الموسيقيون يستعدون لشغل مواقعهم للبدء في عزف الكونسرت الذي ألفه الموسيقار النمساوي هانس كيرشباومر بناء على مقاطع من قصيدتي "الأيام السبعة للوقت"، في قاعة بمدينة انسبروك في ولاية تيرول، عندما اقتربت مني سيدة فارعة الطول، وباغتتني بالقول: أنت عدوي!. لم تكن هناك أي مقدمات لمثل هذه الجملة، وها أنا وجها لوجه وأمامي وجه لا أعرفه. لم أكن اطلعت بعد على أسماء الضيوف المشاركين في المهرجان الذي جمعني بهذه السيدة، ولم أكن أفتش هنا، في هذا الجو البديع عند سفوح الألب، عن عدو.

قدمت لي نفسها بوصفها إسرائيلية فقدت سبعة أفراد من عائلتها في حرب الـ1973 في الجولان، ومنذ ذلك الوقت قالت إن تحولاً وقع في حياتها، فنزلت من الجولان وباتت ناشطة سلام. سألتها سؤالاً جوهرياً: هل أنت مع حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وتقرير مصيرهم، ومن ثم حق السوريين في استعادة أرضهم المحتلة في الجولان؟ قالت نعم، بكل تأكيد. قلت إذن لماذا أردتني أن أكون عدوك؟. ووجدتها تعانقني. لم أكن سعيداً بالفكرة، ولم يتح لي أن أمانع. من بعيد كانت الكاميرات تتابع الأمر. هذا هو كل شيء.

***

ليس هناك شيء سياسي بين العرب والإسرائيليين، هناك مسالة حقوقية. هناك صراع نشأ عن احتلال أرض فلسطين، وتقويض الكيان الفلسطيني. والواقع أن الغرب أراد له أن يكون وجودياً عندما سمح ليهود العالم بأن يدمروا الكيان الفلسطيني وينشئوا على أنقاضه كياناً استعمارياً.

إذن على قاعدة الاعتراف بحق الفلسطينيين والعرب أو عدم الاعتراف به تتأسس الأشياء. لا مكان للتصورات الشخصية للأفراد على طرفي صراع له علاقة بمصائر الأمم. هذا ما يمكن الإشارة إليه في معرض الحديث عن واقعة السيدة دورون معي.
خلال جلسة عشاء جماعي للكتاب قالت لي إنها تفتش عن جذورها في النمسا، ووجدتني أشجعها على الأمر. كنت ألمح في تصرفاتها توتراً، وشعوراً بالخيبة كلما سمعتني أتكلم عن التراجيديا السورية بوصفها تراجيديا العصر. ولكن ماذا حل بالسيدة دورون عندما وصفت ما يجري في سوريا للحضور بأنه نسخة جديدة من الهولكوست، ولكن هذه المرة بمجرمين إيرانيين وروس وغطاء أممي واغتباط إسرائيلي.

***

خلال التحضير لحفل الختام سألتني السيدة ماجدلينا مديرة المهرجان أن ألقي قصيدة، إلى جانب عدد من الشعراء والروائيين الذين أراد المهرجان أن يحتفي بهم. وكانت الروائية التي اعتبرتني من اليوم الأول عدوها اللدود، ومن ثم اكتشفت أنني عدوها المحبوب، واحداً من هؤلاء.

 المفاجأة أنها تخلت عن قراءتها المقررة لمقطع من روايتها على جمهور الحفل، لتستبدلها بحديث يعيد عليهم ما أسمعتني إياها في قاعة الكونسيرت مع إضافات ضرورية: هنا في القاعة عدو لي، عندما سمعت شعره عرفت أننا متشابهان لكوننا نصدر عن الألم نفسه. عرفت أننا كلانا فقدنا أقارب وأصدقاء في الحرب نفسها. وأضافت إنني أنشطـ، اليوم، ككاتبة لأجل الأهداف نفسها التي ينشط لأجلها كشاعر.

والواقع أن مفارقة أن نكون متشابهين، تماماً، اضطرتني إلى إعادة شرح القضية التي تجعل السوريين والفلسطينيين والعرب حذرين من هكذا تحليل عاطفي، يريد منا أن نعبر على فكرة قيام دولة احتلال استيطاني على أنقاض كيان فلسطيني كان موجوداً، ونسلم بها، ونبدأ من جديد.

 ولكن من أين نبدأ؟. كان لابد أن أعيد على الحضور ما سبق وقلت للسيدة دورون: ليس هناك مشكلة شخصية، يا سيدتي. فلم يسبق أن التقينا قبل اليوم. المسألة أكبر من عاطفتك الشخصية ورؤيتك الشخصية وموقفي الشخصي. فلسطين عنوان جارح لقضية شعب، ماتزال منذ سبعين عاماً معقدة ومشتعلة وتنتظر حلاً يعيد إلى الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. أما الجولان المحتل، الذي كنتِ إحدى المستوطنات فيه بطريقة غير مشروعة، فمازلتُ أريده، أريد أن أستعيده، فهو جزء مسلوب من وطني. هنا مشكلة موضوعية تتجاوز شخصي وشخصك.

هذا تلخيص سريع لما وقع في القاعة. وإن كنت أظن أن حديثي للإعلام النمساوي الذي قلت خلاله: أخشى أن العالم الذي مكن سفاح الشام من تهجير 6 ملايين سوري خارج سوريا وأزيد منهم داخل سوريا، وهدم ثلثي البلاد، وقتل نصف مليون إنسان، وملأ السجون والمعتقلات بمعارضيه، ووضع ما تبقى من شعبه في قفص كبير لا يليق حتى بالحيوانات، أخشى أن يصنع هذا الأوشفيتز الشرقي من السوريين، اليوم، يهوداً جدداً. نحن لا نريد للسوريين أن يكونوا يهود العالم الجدد. نريد أن يتوقف أوشفيتز السوري.

يبدو أن هذا الكلام لعب دوره في دب الفزع في السيدة دورون، فقد أعطاها مؤشراً على أن الضحية السورية تتمم اليوم، بآلامها المهولة، ما بدأته الضحية الفلسطينية من مسح صورة الضحية اليهودية تماماً من ذهن الغربيين بعدما حولها المصير الفلسطيني إلى قاتل يومي.
والآن أهلا بكم في الهولوكوست النازي الإيراني/الإسرائيلي/ الروسي في سوريا.