الأحد 15 نوفمبر 2015 / 17:42

بيانات الشجب الإنشائية لا تسمن ولا تغني من إرهاب

بسرعة البرق ظهرت البيانات العربية الرسمية الصادرة عن الجهات الدينية، وامتلأت بها القنوات والصحف، وغصت بها وسائل الإعلام، وصدحت بها الحناجر العربية، بعد أن أدلت بدلوها في الهجمات الإرهابية التي طالت أماكن متفرقة من العاصمة الفرنسية باريس. وأكثر تلك البيانات هو في حقيقة الأمر من قبيل لزوم ما لا يلزم واستعراض بلاغي، يصور قوة اللغة العربية وقدرتها على الشجب من جهة، وقدرة المدونة الفقهية الإسلامية من جهة أخرى على طمأنة أتباعها والمتحمسين لها طمأنة ملتبسة بأن ما حدث في باريس من أعمال إرهابية لا يمت إلى الإسلام بصلة، على الرغم من أن هذا التأكيد أضحى معروفاً لدى العالم أجمع بشرقه وغربه، وبشعوبه وقادته.

إن الإسلام في عمقه وجوهره محب للإنسانية متسامح ومنفتح مع الأديان وأتباعها، إلا أننا في الوقت نفسه لا يمكن أن ننكر حقيقية باتت يقينية وتدعمها الأدلة بأن ما حدث في باريس من إرهاب بشع قاموا به مسلمون إرهابيون قد تحركوا بدوافع أيدولوجية شتى، لكننا لا يمكن أن ننكر بأنهم يستندون في الوقت نفسه استناداً قوياً إلى فتاوى ونصوص تشرع لهم فعلتهم الدنيئة تلك، بل تجعلهم يهتفون متحمسين بجنة الخلد متطلعين إلى الحور العين: الله أكبر، الله أكبر.

وهنا لابد أن نتوقف ملياً، ومن حق العالم الذي بات الإسلام المتطرف يشكل خطراً عليه، أن يتوقف وينظر فاحصاً ومتأملاً دور الإسلام المعتدل والرسمي الذي ينبغي له أن يلعبه في سياق هذا الاحتراب الديني الدموي عبر منظماته وهيئاته ومجالسه ومراكزه وشؤون أوقافه المنتشرة في كل بلد عربي وإسلامي، ويمكن الإشارة هنا إلى أن أهم هذه الجهات قد نشرت بيانها أمس السبت، وفي معظمها اكتفت بالشجب والإدانة والرفض، وهي عادة ما تفعل ذلك في كل حادثة من هذا القبيل، لكن رغم كثرة هذه البيانات فإن العمليات الإرهابية التي ينفذها إرهابيون مسلمون المعتمدة على مصادر وفتاوى إسلامية لم تتوقف، بل أضحت تزيد زيادة كبيرة يوماً بعد يوم، مما ينذر بكوارث كبرى لا تبقي ولا تذر.

وعلينا أن نذكّر هذه الجهات الإسلامية المعتدلة أن دورهم لابد أن لا ينحصر في البيانات المرسلة والجمل المدبجة والبلاغة القوية والفصاحة المبهرة. وإذ ندرك جيداً موهبتهم البلاغية وقدرتهم اللغوية الفذة، فإن هاتين القدرة والموهبة لم تسعفاهم حتى الآن على قراءة ذلك الجزء الكبير من التراث الإسلامي الدموي الذي يدعو إلى الإرهاب والقتل والكراهية بل سرعان ما تتحول بياناتهم في هذا الشأن إلى استعراض شواهد التعايش التاريخي وتسوق الأدلة على ذلك، مغفلة مواجهة تلك النصوص القديمة والفتاوى التي تدعو إلى الكراهية والإرهاب، متجنبة الخوض فيها رغم أنها منتشرة ومؤثرة تأثيرا كبيراً على الشباب، بل أضحت أحد العوامل المحفزة على الإرهاب في المنطقة.

لقد أصدرت الجهات الإسلامية المعتدلة بعد أحداث باريس الدامية بياناتها على نحو سريع وفوري، مما يوحي أنها بيانات جاهزة، لا تؤسس لمبادرات بعيدة المدى، وما على المتلقي حتى يتأكد من ذلك إلا أن يضع البيانات بجانب بعضها، ويقارن بينها وبين البيانات الأخرى التي نشرت في حوادث إرهابية شبيهة، وسيكتشف عندها أنها بيانات عامة لا خصوصية فيها، تنطبق على كل الحوادث السابقة، وأنها عندما تدعو إلى ضرورة وجود تحالف دولي لمواجهة الإرهاب، فإنها تتخلى فيها عن مسؤوليتها التاريخية إلى اختصاص ليس من اختصاصها، بل من اختصاص الساسة.

وهنا علينا أن نقارن بين موقفين، موقف فوري وسريع وبلاغي غير مؤثر وموقف آخر، نطمح إليه، يتجنب أن يكون كذلك، ويتحفظ على الإدلاء برد فوري بل يفضّل التأني ليصنع الفعل، وهو ما يطمح له معظم العرب اليوم، وفي هذا الشأن من المهم أن تفكر الحكومات العربية بتوفير تلك الأموال التي تنفقها على هذه "الجهات القولية" وأن تستثمرها فيما ينفع دفع مسيرة تنميتها أو حربها العسكرية ضد الإرهاب، وإن كان هذا لا يكفي، فالحرب لن تحقق نتائجها الإيجابية دون أن تكون حواراً أيضاً مع العقول واحتواء جاداً للقلوب.

لقد أضحى فهم الإسلام في نظر الشباب ملتبساً، بين نصوص سمحة وأخرى عنيفة، ووجد المسلم نفسه يتلقى العنيف بعد السمح والسمح بعد العنيف، فلم يعد يميز بينهما، وهذا ما حدا بعدد من المثقفين العرب إلى تقديم اعتذارهم من فرنسا ومن الضحايا الذين سقطوا في الهجمات الهمجية، ليس تزلفاً للغرب ولا كرهاً بالإسلام، بل إدراكاً منهم بأن ما جرى وما يمكن أن يجري له جذور تمتد في المسكوت عنه في الإرث الفقهي الإسلامي، وهو ما ينبغي أن تباشر الجهات الإسلامية البحث فيه وعرضه وتفنيده وتحليله والتنبيه منه وعليه بشجاعة، بدلاً من مجرد الاكتفاء ببيانات الشجب الإنشائية التي لا تسمن ولا تغني من إرهاب.