الثلاثاء 17 نوفمبر 2015 / 19:34

تقرير 24: كيف يمكن قراءة داعش بعد الطائرة الروسية وهجمات باريس

لم تكن الهجمات الدموية التي هزت باريس والعالم في "يوم النحس" الشهير، المعروف باسم "الجمعة 13"، نتيجة نحس أو صدفة أو سوء حظ. فإذا كان من سبب أو أسباب لوقوع هذه الهجمات، فإنها جميعاً أبعد ما تكون عن تفسير غيبي ما. ما الذي حدث إذن، وكيف نستطيع الآن، بعد مرور أيام وبدء تكشف الوقائع تباعا، فهم ما جرى ووضعه في سياقه الصحيح؟

١. حملة داعشية متصلة
في أوقات متزامنة تقريباً، جاءت الإعلانات الرسمية من تركيا وتونس والسويد وروسيا وفرنسا وبريطانيا، بأنها أحبطت خلال الشهور والأسابيع الماضية، عمليات إرهابية، وتمكنت من ضبط عدد من المتهمين المرتبطين جميعا بداعش. بالتالي، تصبح عملية باريس واحدة من عمليات عديدة أخفقت في الانطلاق أو في تحقيق الأهداف نفسها. أي أن هناك عشرات المحاولات المنظمة التي ينجح بعضها ويخفق بعضها الآخر.

٢. خارطة الهجمات: العالم
مع الإعلان الروسي الرسمي بأن تفجير الطائرة الروسية في أكتوبر(تشرين الأول) الماضي تم بالفعل بقنبلة و"عمل إرهابي" منظم، على حد قول السلطات الروسية، فإن تبني داعش للعملية في حينه لا يبدو مثيراً للسخرية بقدر ما بدا حينها، وما إعلان بوتين تكثيف الهجمات على داعش في معقله السوري الرقة، سوى من قبيل التأكيد والجزم بأن داعش هو المسؤول عن العملية.
  
قبل باريس، وتوازياً مع مصر، كان المدنيون في أنقرة وبيروت على موعد مع تفجيرات انتحارية لا تقل ترويعاً وصدماً وفاتورة بشرية عالية. داعش في هذه الحال يكون قد ضرب، تقريباً بفوارق ضئيلة، أربعة بلدان، دون أن ننسى تفجيرات المساجد في الكويت والبحرين والسعودية. ودون أن ننسى ما تعلن عنه سلطات خليجية وعربية عدة عن ضبط عناصر كانوا يخططون لتنفيذ هجمات مشابهة.

٣. الاعتراف والمساومة
من الخطأ الاعتقاد أن مكاسب داعش من هذه العمليات كلها، الدعاية فحسب. الهدف الحقيقي الذي يبدو أن داعش يتوق إليه هو الاعتراف، ليس اعتراف المتعاطفين المحتملين فحسب، والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ذات الأيديولوجيات المشابهة، بل أيضاً اعتراف الأعداء. وهنا لا يمكن نسيان أن أولى خطوات التنظيم في ٢٠١٤ كانت إعلان "دولة"، وبالطبع داعش لا يتوقع ولا يحلم اعترافاً به بوصفه "دولة"، بقدر ما يريد أن يفتح باب "المساومات"، ولو من تحت الطاولة وعبر خطوط استخباراتية خلفية، مع الدول صاحبة القرار في العالم، تحفظ له شيئاً ما من وجوده حيث أعلن دولته المزعومة، أي في سوريا والعراق. بالطبع يريد مع ذلك وبالتوازي معه تحقيق الهدف المباشر والآني؛ تخفيف الضغط الداخلي المتزايد، عبر ممارسة الضغط الخارجي.

٤. جيش الدواعش
ما يقوله داعش إذن من خلال هذه العمليات شبه المتزامنة، إذ لا يفصل بينها سوى فترات قصيرة، هو أنه يملك جيشاً كونياً من الأتباع المستعدين لتفجير أنفسهم في أي بقعة من بقاع الأرض، وهم مستعدون وجاهزون ومتشوقون لإيقاع أكبر عدد من الخسائر البشرية. والمرجح لهذا السبب ألا يتوقف داعش عن مثل هذه العمليات، وأن يحاول زيادة وتيرتها لإثبات هذه الفكرة.

وإذا صح مثل هذا الاحتمال بالفعل، فإن قيادة داعش، تدرك جيداً أنها تمتلك خزاناً بشرياً كافياً لخوض مثل هذه الحرب الكونية غير التقليدية، حرب الانتحاريين والأحزمة الناسفة، ويبدو واضحاً من إيقاع وطبيعة العمليات الإرهابية المتقاربة زمناً وحجماً وقوة تأثير، أنها تنطلق من غرفة عمليات وقيادة مركزية واحدة، وأن كل الكلام عن مجرد تمنيات وتوجيهات يطلقها التنظيم للمتعاطفين معه، لا يمكن الركون إليه كثيراً.

٥. قدرات
مجرمون، سفاحون، سفاكو دماء، أيديولوجيون حتى الثمالة؛ كلها صفات تنطبق على الدواعش، قيادة وعناصر. هذه الصفات لا يزيد ولا ينقص فيها أن نقول إنهم لصوص وداعرون ومدمنو مخدرات. كما لا يفيد شيئاً في الحرب الحقيقية ضد الدواعش القول إنهم مجرد مجانين يهرعون بأحزمتهم الناسفة إلى الجنة. هذا تفصيل، حقيقي بهذه النسبة أو تلك، لكنه لا يساعد على فهم الصورة الشاملة.

تنظيم داعش، بالإضافة إلى الخزان البشري يمتلك عناصر قوة أخرى، على رأسها المال المتأتي له من بيع النفط في السوق العالمية السوداء، وهي ممارسة يتقنها عناصر البعث العراقي الذين هم جزء من تكوين داعش، منذ أيام الحصار الذي كان مفروضا على نظام صدام حسين، كما يعرف أدواته جيداً من سنوات الفساد المستمرة في العراق منذ الغزو الأمريكي في ٢٠٠٣، وتقارير كثيرة تحدثت عن أن النظام السوري يشتري منه النفط إضافة إلى بيعه في الأسواق العراقية. وهنا لابد من التوقف عند صور الأقمار الصناعية التي قررت روسيا نشرها لبعض خطوط تهريب النفط التي يستخدمها داعش؛ وهذا يترك السؤال مفتوحاً حول ما يمكن أن تكون رصدته وترصده الأقمار الصناعية لدول أخرى، وعلى رأسها أمريكا، دون أن تحرك ساكناً، وهي التي تزعم قيادة حرب لا هوادة فيها ضد التنظيم.

عنصر القوة الثالث بيد داعش هو ترسيخ خطوط التهريب الدولية، تهريب البشر والأموال والمعلومات وغيرها، عبر حدود البلدان؛ خبرات تم اكتسابها أيضاً من سنوات الحصار العراقية، ولكن بصورة أكبر وأحدث منذ اندلاع الثورة السورية قبل خمس سنوات، حيث تم عبر الحدود المترامية من لبنان إلى الأردن فالعراق وتركيا وأبعد من ذلك، خطوط تهريب واقتصاد تهريب بات يتمتع بالخبرات الكافية، وهي المافيا الحقيقية التي يبدو أنها لم تمس فعلياً رغم كل الحملات التي تستهدف التنظيم في سوريا والعراق.

عنصر القوة الرابع يتمثل في جيل كامل من الإسلاميين العرب وغير العرب المقيمين في الغرب، ولاسيما في أوروبا. أولئك لا يوفرون فحسب الغطاء المعنوي الكافي، لكنهم قادرون على توفير غطاء تمويلي ومعرفي ولوجستي، بما يملكونه من موارد ومن قدرة على الحركة بجوازات السفر الأوروبية والغربية التي يحملونها. ولعل التقارير العديدة حول طبيعة وتركيبة داعش البشرية، قيادة ومقاتلين، داخل العراق وسوريا، تعطي فكرة كافية للاستنتاج بأن العنصر الأجنبي ليس مقادا ومتأثرا وخاضعا، لعنصر آخر (عربي سوري وعراقي وخليجي) بل إنه جزء أساسي في صناعة القرار وقيادة المعركة. هذا الجزء من تكوين داعش، يفرض تحدياً هائلاً قبل انفجار قضية اللاجئين وتدفقهم إلى حدود أوروبا، وبعد هذا التدفق يبدو من شبه المستحيل رصد ومراقبة وكشف جميع هذه العناصر.

٦. الفشل السوري العراقي والغطاء الأيديولوجي
في قلب هذا المشهد المعقد المتراكب، يسقط من الحسبان العامل الرئيس في ولادة داعش. فشل عميق في حل الأزمتين السورية والعراقية، جنباً إلى جنب وبروز الصراع الطائفي وبلوغه درجات غير مسبوقة من الاستقطاب الأيديولوجي، والذي وفر ولا يزال يوفر الغطاء الأشمل لنمو داعش في المنطقة والعالم. بالتوازي، هناك دولة توسعية تتصرف بمنطق المافيا في عرض العضلات والاستهتار بالدول الأخرى (إيران) ودول عربية لم ينجح معظمها حتى الآن في إيجاد خطاب بديل، وفي فتح أفق مختلف لملايين الشباب العرب اليائسين، ممن ترتمي فئة بسيطة منهم في أحضان داعش؛ إلا أنه بالتناسب هذه الفئة البسيطة تعد بعشرات الآلاف.

ولعل الكلام الدولي المتسارع هذه الأيام، ومنذ قمة العشرين في تركيا وما قبلها، عن حل سريع زمنياً للأزمة السورية، يأتي ليؤكد إدراكاً متزايداً لدى صناع القرار حول محورية المسألة السورية. لكنه يبقى إدراكاً متأخراً، والمواجهة الفعلية لكل ظاهرة داعش باتت تتطلب حكماً ما هو أكثر بكثير من بقاء الأسد أو عدم بقائه في السلطة، علماً أن لهذا العامل تأثيره مستقبلاً لما كان للأسد من دور في رفد هذا التنظيم وتوسعه وتسهيل انتشاره بوسائل شتى.