الجمعة 20 نوفمبر 2015 / 18:21

الثقافة من الواجهة إلى الوجهة والدور الطليعي لأبوظبي

قد يخال لنا، في غمرة الأحداث واللحظات السياسية الداهمة التي تمر بنا أن الثقافة، بمعناها الحضاري الأوسع، لا بالمعنى المهني المحصور بفئة تشتغل بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة والإنتاج الثقافي، قد يخال لنا أنها تراجعت إلى الصفوف الخلفية وأنها ما عادت ذات صلة حقيقية بما نختبره ونعيشه.

إن مثل هذا الفهم الضيق والقاصر للثقافة، ليس في حقيقة الأمر إلا سبباً رئيساً من أسباب التخبط الذي تعيشه منطقتنا العربية، إذ عملت سنوات من ممارسة السياسة، دون سقف وإطار وأفق ثقافي، في معظم البلدان العربية، على إقصاء البعد الرؤيوي للثقافة بوصفها جزءاً من هوية الأمم وبوصلتها السياسية، إلى تفريغ كلا السياسة والثقافة من مضمونهما ومن تلك العرى الوثيقة بينهما. وهكذا رأينا الانفصام شبه التام بين الأمرين، وبتنا نرى "ثقافات" تتحرك حول مراكز السلطة وصنع القرار، دون أن يكون بينها وبعضها رابط، أو صلة بينها جميعا وبين البيئة السياسية التي يفترض أن تتأثر وتؤثر بها في علاقة تفاعلية لطالما كانت سمة من سمات تأسيس الدول والثقافات. وهكذا رأينا، بسبب قصور الرؤية هذا فيما يتعلق بجوهرية دور الثقافة، بروز خطاب ديني متشدد كلف نفسه عناء الإجابة عن أسئلة الفئات فاقدة الانتماء والهوية في المجتمعات العربية، وشهدنا ظهور جماعات وتنظيمات من قبيل القاعدة وداعش، تتنكب خطاباً سياسياً ثقافياً بائداً، إلا أنه يمتلك القدرة على الاستقطاب، خاصة استقطاب فئة شبابية نشأت في خضم هذا الفراغ الجلي.

غني عن القول، في هذا الإطار، أن هناك فارقاً جلياً بين أن تكون الثقافة "واجهة" أو أن تكون "وجهة"، الجذر واحد وبينهما تباين جم وبرزخ لا يبغيان، في الأولى تخسر الذات نفسها، وفي الثانية تكسب الذات نفسها وتكسب الآخر في الوقت نفسه. الفارق بين الوجهة والواجهة هو الفرق بين أن تشكّل المواجهة الثقافية التي تدور رحاها على مدار الساعة مع القوى الظلامية وقوى الجهل نقطة انطلاق استراتيجية، وبين أن تنشغل بأسئلة الثقافة وهمومها انشغالا موسميا؛ انشغالك بموضات الملابس وعروض الأزياء في فصل الصيف أو حتى بشفرات اللبس والزي وتحديدها تحديدا قاصرا بحجج الحفاظ على الهوية التي أصلاً لم تكن ثابتة بل متحولة!

الثقافة هنا مركّب متنوع وإن كان هذا التنوع لا ينفي التجانس عنها وهو يعبر بما ينطوي عليه من قيم ورموز إبداع عن هوية الامة الحضارية وعمّا فيها من قوى حية وعن نظرتها إلى الكون والحياة.

ولعلنا لا نجانب الصواب عندما نقول إن أحد أبرز أشكال الإحباطات التي واجهت الثقافة العربية في بعض عواصم العالم العربي أنها وقعت أسيرة لوعي زائف، فأضحت بهرجاً مخادعاً وديكوراً وسراباً يحسبه الظمآن ماء. وتحولت من مركب يحوي الفن والمعرفة والخلق والتقاليد إلى أن تكون واجهة عرض واستعراضا بلا وجهة ولا غاية ولا هدف ولا موقف.

هذا هو المأزق الثقافي الذي يبرز في دول عربية عدة كانت في طليعة الركب أو في المواجهة لتتحول إلى واجهة بعد أن كانت تعمل وفق آليات العمل الثقافي المركب والعرف بالواقع.

هنا يجدر بنا أن نتأمل مصائر الثقافة والفنون وتشكيلاتها المخادعة في بعض عواصمنا العربية التي آلت إلى أنماط متشددة من المواقف التي تحرم الثقافة وتمنع الكتب وتتجنب الأنشطة الموسيقية والمسرحية وتنظر للإبداع من منظور فقهي ضيق، بعدما كانت تنتجه وتنشره وتشكل قوة ناعمة فاعلة في العالم العربي وهي وإن أثرت في التعليم والثقافة والفنون العربية واستنار بها أجيال من العرب، إلا أنها اليوم تسير على النقيض من مبادئها المستنيرة التي انغرست في قلوب أبناء المنطقة العربية عامة، وها نحن نرى أصواتا لمتشددين شوهوا معاني الإسلام وروحه السمحة وكاد يذهب نصف قرن من العمل الثقافي والفني أدراج الرياح وأخفق في أن يمارس دوره المأمول، بحيث لا يصبح واجهة بل وجهة تؤثر في الروح والعقل والقلب، وتصنع ثقافة تحمي مواطنها من الوقوع في شراك الآيدولوجيات الإسلاموية الزائفة.

ما الذي حدث، وكيف استطاع هؤلاء أن يهزموا بآيديولوجيات الكراهية الخفية التي لا تساوي حفنة من الدولارات عمل نصف قرن أنفقت فيه المليارات وذهبت أدراج الرياح؟

عندما تصبح الثقافة واجهة فإنها يمكن أن تنتج ضروبا متفرقة من الأشكال الثقافية وأنماطها المختلفة في التعليم والفنون والإعلام، لكنها لن تكون إلا حلية أو زينة يزدان بها العالم ويفاخر بمظاهرها السطحية، وهكذا سهل على الإسلامويين المتشددين هزيمتها بيسر وسهولة خاصة أنها تخاطب الغرائز والعواطف مغيبّة للدور الذي ينبغي أن تلعبه الثقافة وأسئلتها المهمة، تلك الأسئلة الكفيلة بلا أدنى شك في الارتقاء بذائقة الناس، وفي تطوير إمكانتهم العقلية والمعرفية، وإضفاء قيم متجددة على المجتمع، تقاوم ضيق الأفق والانغلاق وكراهية الآخر وانتفاخ الذات ومرضها الذي يجعلها تبني للموت وكراهية الحياة وتفضل التشدد على الانفتاح والانقطاع على التواصل وجعل الخلاف بديلا عن الاختلاف.

لقد أدركت أبوظبي، منذ البداية، وانطلاقاً من دورها المحوري كعاصمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة والفنون لمجابهة البنى المتشددة والمتطرفة ومواجهتها، وعلى هذا الأساس تصدت لرياح أيدولوجيا الكراهية، مؤمنة بأن تلك الأيدولوجيا لا تستطيع العبور مهما فعلت وابتكرت من حيل ومكائد، لكن آيدولوجيا التشدد والكراهية هذه لا تكف عن استعمال دهاليز الغريزة وأنفاق العاطفة لتشوه الفن والثقافة وتضلل الشباب، ومن هنا كانت البنى التشريعية والقوانين سدا منيعا لحماية التنوع والتعدد الثقافي، ذلك أن الثقافة ليست ترفا ولا مظاهر استعراضية عابرة، بل هو تكوين للهوية السياسية والحضارية، بقدر ما هو كل شيء آخر، من الكتاب إلى اللوحة إلى الصورة، وصولاً إلى المناهج التعليمية والبرامج الرياضية والتربوية. فروح التسامح الذي تصنعه الفنون العظيمة في النفوس ينبغي أن يواكبه مشروع ثقافي واع قادر على مواجهة ذلك المشروع الظلامي الذي يسعى إلى الهدم الحضاري والخراب الثقافي.

علينا في الإمارات ونحن نبني ونطور المشروع الثقافي هذا أن نحسن حمايته وأن ندرأ عنه ذلك الموت الثقافي الذي يقودنا إلى السبات المعرفي الذي أصاب غيرنا.