السبت 28 نوفمبر 2015 / 17:53

الرومانسية السياسية

قاد البحث عن المثل العليا إلى تبني نوع من "الرومانسية السياسية"، وهي نوع من التفكير والتدبير السياسي يستلزم خيالاً خصباً، بقدر احتياجه إلى عاطفة جياشة نبيلة. ولا يقتصر وجود هذا التفكير على اتجاه سياسي أو أيديولوجيا واحدة، ففي إيطاليا كان الرومانسيون في أغلب الأحيان من الليبراليين، في حين أن الرومانسية ارتبطت في ألمانيا، بوجه عام، بالتيار المحافظ، بينما سلك الرومانسيون الإنجليز سبلاً متناقضة، فهناك من دافع عن الموروث، ويوجد من كان يحرض على الحرب في سبيل الدفاع عما يراها الحداثة والتنوير والاستقلال.

والرومانسية السياسية، فضلاً عن تجليها الأكبر في "المدينة الفاضلة" تتصف بعدة سمات، الأولى: المعنى المسرحي الذي يقوم على البطولة والتضحية والعظمة والدم المسفوح المرتبط بالثورات الرامية إلى إنهاء بؤس الأوضاع القائمة. والثانية: الشفقة على البسطاء والانشغال بهمومهم الاجتماعية والنفسية، ولذا تتجلى المطالبة الدائمة بعدالة توزيع الثروات، وتطبيب العوز، ومقاومة الفقر، والشفقة على الشعوب المغلوبة والانحياز إليها إن كانت تكافح في سبيل التحرر من الاستعمار أو تقاوم الطغيان أو تواجه كوارث كبرى. والثالثة: وجود تصور عاطفي للسياسة بما يجعل النظرة إليها تختلف عن تلك التي تتعامل معها على أنها "فن الممكن" لتصبح دعوة إلى التمسك بالمثل العليا، وتهتم بالخطاب المفعم بالبلاغة، لأنها تؤمن بقوة الكلمة. والرابعة: هي النظرة الكلية للأمور، بما يؤدي إلى عدم الاكتفاء بجدولة المشكلات إنما طرحها بكل ضخامتها، ومدها عبر أرجاء الكون والتاريخ.

ولعل أريك فروم، كان أيضاً يبحث عن المثل العليا حين كان ينشد "المجتمع السليم"، في كتاب يحمل هذا العنوان، ناقش فيه مشكلة الإنسان الحديث، الذي يعاني في مجتمع يضع كل همه في الإنتاج الاقتصادي، ولا يعبأ بتنمية العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراده، ولذا يسقط في خلل نفسي وعقلي في ظل غياب الاستجابة للحاجة إلى الاتصال والترابط الحميم والتفرد والتعقل، ومع الخضوع لتحكم التقنية والتنظيم اللذين جعلا الإنسان عبداً لهما.

ويبني فروم حجته هنا على فشل النظامين الرأسمالي والاشتراكي في رد المجتمع إلى صوابه، والفرد إلى طمأنينته، ثم يبشرنا بأن حل الأزمة الإنسانية التي نعيشها تكمن في "اشتراكية اجتماعية" جديدة تكفل للمجتمع سلامة العقل، وتحمي الفرد من أن يكون مطية لتحقيق أغراض غيره من الناس، وتدفعه ليكون منتجاً ومسؤولاً، عبر الانشغال بالجوانب الإنسانية، وإخضاع النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية لغاية واحدة وهي "تنمية الإنسان".

ويقول فروم "إننا في الوقت الحاضر نقدس أوثاناً كثيرة ونعبدها، ولو آمنا بالله لحطمنا هذه الأصنام. فنحن نؤله الدولة، ونؤله في الدول الدكتاتورية القوة، ونؤله الآلة، ونؤله فكرة النجاح في الحياة. وفي سبيل ذلك ينفصل نشاطنا عن احتياجات نفوسنا، ونضعف في الإنسان صفاته الروحانية، ومهما يكن من أمر، فواجب الإنسان الحر أن يستنكر عبادة هذه الأوثان، سواء كان من المؤمنين بوحدانية الله أو من دعاة دين جديد، وواجبنا أن نهتم بالجوهر دون العرض، وباللباب دون القشور، وبالخبرة دون اللفظ، وبالإنسان دون النظم، وبهذا الإجماع على استنكار عبادة الأوثان الجديدة تتألف القلوب حول عقيدة مشتركة أساسها المحبة والتواضع، والإيمان بالعالمية، والتعاليم الإنسانية في الديانات العظنى في الشرق والغرب، والنظر إلى الأمور بعين العقل، والاهتمام بالحياة نفسها لا بالمعتقدات والمذاهب. وبهذا الاتجاه الجديد تنشأ طقوس جديدة، وتعبيرات فنية جديدة، تؤدي إلى احترام الحياة، وتماسك الناس".

وتطرق فروم أيضاً إلى هذا الأمر، مطلقا العنان لخياله السياسي بحثا عن المثال، في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر" محاولاً أن يجد ائتلافاً وتناغماً بين بنية الشخصية الاجتماعية للإنسان العادي من جانب، والبنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الذي يعيش فيه من جانب آخر. وهو يراهن على تغيير الشخصية الإنسانية، عبر عدة شروط مثل المعاناة مع الوعي بهذا وكشف أصوله، والإيمان بأن هناك مخرجاً من هذه الحالة، وأن هناك ضرورة لتغيير الممارسات الحياتية الراهنة، في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية التي ولدت في إطار الرأسمالية، حتى يمكن أن نصل إلى "الإنسان الجديد" المستعد لنبذ التملك كي يحقق كينونته كاملة، ويشعر بالأمان والحرية والثقة والانتماء واستقلال الذات والتفكير النقدي غير الانفعالي واحترام الحقيقة، والشغف بالعالم والتكافل مع الآخرين، ومحبة الحياة واحترامها في مظاهرها وتجلياتها كافة، في ظل الإيمان بأنه لا قداسة للأشياء ولا السلطة، وكل ما لا روح فيه ولا حياة، ومع الحد من الشراهة والكراهية والأوهام وخداع الآخرين والنزوع إلى التدمير، وباتباع طرق لتنمية خيال الإنسان لا كوسيلة للهروب من الظروف المحتملة، وإنما عبر استشراف المستقبل دون القفز على الواقع.

ويبدو أن الرؤية التي بثها فروم وغيره في الفضاء الأكاديمي والاجتماعي الغربي قد لاقت آذاناً مصغية، أو ربما جاء من يفكر بالطريقة ذاتها، ويعمل خياله السياسي على نطاق واسع، حتى لو لم يكن قد سمع بما صرخ به فروم أو من جاءوا قبله وتعلم منهم، ومن جاءوا بعده وتعلموا منه. فقد عكف فريق بحثي من "مركز البحوث للتنمية الدولية" على دراسة مستفيضة استهدفت وضع الإطار النظري الذي يمكن أن يقام عليه مجتمع جديد في أمريكا اللاتينية بصفة خاصة. وهذا المجتمع ليس استهلاكياً على الصورة التي نراها اليوم في البلدان المتقدمة والغنية، بل هو مجتمع منتج، والإنتاج فيه تحدده الحاجات الطبيعية الضرورية لكل إنسان، لا الربح الذي يجيء أو لا يجيء. ونظراً لاختلاف الحاجات الضرورية تلك من ثقافة إلى أخرى اقترح الباحثون ألا يترك تحديد هذه الحاجات إلى أفراد يقرونه وفق هواهم أو مصالحهم الضيقة، إنما لا بد أن يتم هذا بمشاركة أفراد الشعب عن طريق القنوات المشروعة.