الأحد 29 نوفمبر 2015 / 01:39

من يملك المستقبل؟

24- طارق عليان

جارون لانير هو أبو الواقع الافتراضي وأحد ألمع المفكرين في العالم. ويمثل كتاب "من يملك المستقبل؟" تقييمه المتبصر للاتجاه الاقتصادي والاجتماعي الأشد إلحاحاً في عصرنا هذا، ألا وهو تركيز الأموال والسلطة على نحو يضر بنا في شبكاتنا الرقمية.

منذ عقود ولانير يتنبأ بالتحول الذي ستحدثه التكنولوجيا في إنسانيتنا وعلى أي نحو سيكون ذلك، ونحن لم نكن قط أحوج منا الآن إلى بصيرته الثاقبة. فهو يبين كيف أن الشركات التي تستغل البيانات الضخمة والتبادل الحر للمعلومات أفضت باقتصادنا إلى الركود وعرضت الخصوصية الشخصية للخطر وأفرغت الطبقة الوسطى من قلبها. فالشبكات التي يتسم بها عالمنا، بما في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعي والمؤسسات المالية وأجهزة الاستخبارات، تهدد الآن بتدمير هذه الطبقة.

لكن هناك بديلاً. في هذا الكتاب المؤثر الشعري عميق الإنسانية، يختط لانير طريقاً أكثر إشراقاً نحو المستقبل، وهو يتمثل في اقتصاد معلومات يكافئ الأشخاص العاديين على ما يفعلون وما يتشاركون على الويب.

أفكار جريئة
كما يتبين من العنوان، يطرح بيان جارون لانير الفني الجديد سؤال: "من يملك المستقبل؟ "لكن بالنسبة لكثيرين ممن ستأسرهم أفكار لانير الثاقبة الجريئة في جِدتها، هناك سؤال آخر يطرح نفسه أولاً: من جارون لانير؟ إنه نجم دوائر الكتابة عن المستقبل. وهو أبو الواقع الافتراضي الذي يتمتع بمثل البريق الذي كان يتمتع به مايكل جاكسون بصفته ملك البوب. ولا شك أن لانير كان سيصبح أكثر شهرة لولا جثته الضخمة وشعره الطويل المجدول وهيئته التي لا تتناسب مع الظهور على شاشة التلفزيون بوجهه الذي يكسوه الشعر.

أثناء عمله على "مشروعات مثيرة غير معلنة" لصالح وحدة أبحاث ميكروسوفت (جهاز عملاق أخف من الهواء لإطلاق المركبات الفضائية، واستراتيجية تنبؤية لتغيير مواضع حدوث الزلازل)، وجد لانير الوقت لتأليف كتاب يستكمل به المسيرة التي بدأها بكتابه الأول الذي يحمل عنوان "لستَ أداة" You Are Not a Gadge 2010. كان ذلك الكتاب نابضاً بالحياة ومتألقاً ويحتوي على بالتنبؤات، والكتاب الجديد مثير بالقدر نفسه. ويوجه لانير موجة من الانتقادات إلى البيانات الضخمة والشركات التي تستغلها، ويوجه نقداً لاذعاً لكيانات الويب الكبيرة ونماذج أعمالها.

إنه يتحدث إليك أنت يا فيسبوك وإليك أنت يا غوغل وإلى غيركما من الشركات التي تعتمد على تكديس وتقييم بيانات المستهلكين دون الاعتراف بأنها تدين بالمال للأشخاص الذين استخلصت منهم كل هذه المعلومات "المجانية". وهو يقول إن المرء لا يحتاج إلى أن يكون منظّراً سياسياً ليؤمن بأن للناس قيمة قابلة للقياس كميا يستحقون أن يعاد تعويضهم عنها.

الوقوع في الشرك
صحيح أن لانير كان ذات يوم يعمل بشكل محموم في سيليكون فالي، منصتاً إلى ما كان يظن أنها شركة ما من شركات الإنترنت المبتدئة "تروج لأحدث مخطط للاستيلاء على العالم" عندما أدرك أنه يستمع إلى "رأس المال" لكارل ماركس.

يكرر "من يملك المستقبل؟" بعض الأفكار الواردة في كتاب لانير الأول، من أن شركات الإنترنت تستغل طبقة من الفلاحين، وأن مستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعي ربما لا يدركون إلى أي مدى هم واقعون في الشرك، وأن وجود طبقة وسطى مزدهرة ضروري للحفاظ على استدامة الإنترنت. وهو يكتب قائلاً إنه عندما "يتشارك الأشخاص العاديون في الوقت الذي تولد الشبكات النخبوية فيه ثروات غير مسبوقة"، فإنه حتى تلك النخبة ستتقوض في نهاية المطاف.

يقارن لانير اقتراحاته بإعادة تهيئة هذه العملية بكتاب "اقتراح متواضع" لمؤلفه جوناثان سويفت، لكن آخر ما يهتم به هو الفخامة التي تغلب على طابع المؤلفين. فهو يقول متحدثاً عن سيليكون فالي: "أدركوا أنه في سياق المجتمع المحلي الذي أعمل فيه، فإن طرحي هو عملياً إنكار للذات".

أسلوب لانير الحاد الميسور والآراء التي يقدمها تجعل "من يملك المستقبل؟" عظيم الجاذبية. فما الذي يدعو إليه؟ كل ما يدعو إليه هو إنشاء الكرامة الجماعية. وهو يفضل كثيراً الصياغات العامة عن الصياغات المقيدة، على الرغم من أنه يوضح أن"كون المرء مؤيداً للمطلقية طريق مؤكد إلى كونه خبيراً تكنولوجياً فاشلاً". ربما لا يقدم هذا الكتاب حلولاً، لكنه يبيّن أن هناك حاجة ماسّة إلى هذه الحلول.

العصر الرقمي
يتداخل كتاب "من يملك المستقبل؟" مع كتاب "العصر الرقمي الجديد" The New Digital Age، وهو كتاب أكثر تألقاً بكثير عن تحليل الويب من تأليف إريك شميت وجاردكوهين. ويركز كتاب شميت وكوهين تركيزاً أكبر على القضايا العالمية، لكنه يختلف مع نقاط محددة.

يتطلع "العصر الرقمي الجديد" إلى الشاحنات ذاتية القيادة التي يمكنها تخفيف العبء من على كاهل السائقين، وأما لانير فيكتب عن التكنولوجيا التي تخرج السائقين من سوق العمل وكيف يمكنها أن تنحرف انحرافاً سيئاً عن المسار. كما يختلف الكتابان أيضا حول ما إذا كانت الروبوتات ستحسّن عمل الجراحين أم ستقلله.

وفيما يرى شميت و كوهين أن هناك ما يبشر بالخير في تأثير التكنولوجيا على الربيع العربي، يعرب لانير عن اشمئزازه من نسبة الفضل إلى شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يقول إن الثورات يمكن أن تقوم أيضاً من دونها.

ربما لا يكنّ لانير أي عداوة شخصية لشميت، لكنه يصف الإصغاء إليه وإلى مؤسس أمازون ورئيسها التنفيذي جيف بيزوس وهما يناقشان مستقبل الكتب بحاله وهو يكافح لتأليف كتابه الأول. وهذا يثير هجوماً على الطريقة التي يمكن بها لشركات الإنترنت أن تقوّض عالم القراءة وتُفقره مثلما فعلت بعالم الموسيقى (وللعلم نقول إن لانير موسيقيّ أيضاً، وكما هو متوقع فهو متخصص في الموسيقى الغامضة التي لا يفهما كثيرون والموسيقى المبتكرة). وهو يحذر بوجه أعم من خضوع المرء لإغراء "أشكال النفايات المعرفية ساحرة التصميم".

أخيراً يوجه "من يملك المستقبل؟" بعضاً من أقوى ضرباته إلى من يفترضون أنهم يملكون المستقبل، وهم أنصار الأحادية التكنولوجية Singularity (الاندماج النظري الوشيك بين البيولوجيا والتكنولوجيا في صورة الذكاء الاصطناعي العام)، ورواد سيليكون فالي الساعين إلى الخلود، ودعاة اليوطوبيا التكنولوجية من كل جنس ولون. نعم، من المصادفة أن لانير أحدهم. لكنه ما زال قادراً على أن يتذكر، زمن صباه، عندما تنبأ المتنبئون بمستعمرات فوق سطح القمر وسيارات تطير. وهم الآن قد اتجهوا بتفكيرهم إلى علم الجينوميات والبيانات. وإذْ يضع المؤلف هذا الماضي الطريف جداً نُصب عينيه، يقول: "أنا مشتاق إلى المستقبل".