الأحد 29 نوفمبر 2015 / 20:20

شهيد وقلادة

هدوء غريب يعم المكان الذي كان صاخباً قبل قليل. صمت مطبق أعقب الانفجار. ألسنة لهب متصاعدة تبعث دخاناً يحجب الرؤية. طنين مزعج هو كل ما أسمعه. بدأت ألمح أطياف رجال يحاولون النهوض. بعضهم يتلمس طريقه للخروج والبعض الاخر يحاول مساعدة المصابين. أحاول النهوض والمساعدة ولكنني عاجزة عن الحركة فأنا مجرد قلادة معدنية حول عنق الجندي سالم ولا أملك من الحيلة شيئاً. أحاول تبين حالة سالم ولكن إحساساً غريباً يراودني عنه. توقفت نبضات قلب سالم التي كانت تشعرني بالدفء والأمان دائماً.

يقترب منا أحد زملاء سالم، يغطي الدم أجزاء من جسده، ويعلو وجهه غبار أسود. رغم إصابته أخذ يسحب سالم إلى الخارج حيث الأصوات العالية لسيارات الإنقاذ وهي تتقاطر الى الموقع. لم أستطع تمييز ما يقال. التقطت بعض الكلمات عن صاروخ أصاب المعسكر. هرع إلينا عدد من المسعفين وبدأوا في محاولة إنقاذ رفيق دربي. حاولوا مراراً ولكن جسد سالم بقي بلا حراك، رحل سالم عن الحياة فجأة وبقيت أنا قابعة على صدره. أحضنه وأحاول بعث حرارة الحياة في جسده عبثاً.

تمت تغطيتنا بغطاء يحجب عني الرؤية، كم أشتاق إلى مشاهدة وجه رفيقي سالم، ذلك الوجه الذي كان يقبلني كل صباح وقبل أن يبدأ يومه، كان يتحدث إلي وكأنه يعرف بأنني قادرة على الاستماع اليه. أخبرني بأنه يتفاءل بوجودي قربه وبأن ملمسي حول رقبته يشحد همته كجندي نذر حياته في خدمة بلاده. كنت أحس بالإطراء الشديد وأنا أعلم بأنني مجرد قلادة، ولكنه اعتبرني أكثر من ذلك.

صوت طائرة تحملنا بعيداً عائدين إلى البلد الذي عشقناه سوية وعشنا فيه أجمل اللحظات.
نصل إلى المطار. في انتظارنا ثلة من الحرس يحملون النعش الذي يضمنا، يسيرون بمهابة وسط صفين من الجنود اصطفوا لتحيتنا.
هل تشعر بكل هذا يا سالم؟ هل تشعر بكل هذا الفخر وأنت ترى نظرات زملائك وهم يرمقون نعشك بمحبة وغبطة؟ وددت أن أمتلك المقدرة على الطيران الآن لكي أطبع قبلة شكر على جبهة كل واحد فيهم ولكنني عاهدتك أن أبقى فوق جسدك الطاهر إلى أن تفرقنا الظروف وسأبقى وفية لوعدي.

يحملنا المشيعون بعيداً باتجاه المكان الذي سيرتاح فيه جسدك أخيراً، ها هو والدك يقترب منا، يكشف عن وجهك ثم يطبع قبلة فوق جبهتك حملت كل ما تحمله معاني الأبوة من محبة واشتياق إلى فلذة كبده، تنسكب دمعة من عينه وتسقط على صدري. أحس بحرارة هذه الدمعة وكأنها بعثت الحياة في من جديد. يلاحظ والدك وجودي. تمتد يده لتخلعني عن جسدك، أفترق عنك للمرة الأخيرة، أقبع الآن في جيب والد سالم بينما يذهب صديقي الى الجنة.

لم أعرف الحياة إلا من خلال سالم. كانت حياة جميلة ونقية. أتذكر أول يوم ارتداني فيه سالم، كان شاباً صغيراً لم يتعد العشرين ربيعاً، ولكنني كنت مزهوة بأنني قد قابلت أخيراً رفيق دربي. أحسست بانجذاب غريب إليه. طريقة تصرفاته وكلامه مع الآخرين وانضباطه ينبئني بشيء غريب عنه، طوال مصاحبتي له لعشرة أعوام كان سالم الجندي الذي يتمناه أي قائد في سريته والابن الذي يفتخر به أي والد.

كنت حاضرة في أغلب المناسبات المهمة في حياة سالم، أتذكر يوم ولادة ابنه البكر أحمد، تم استدعاء سالم على عجالة من معسكره بسبب دخول زوجته في مخاض مفاجئ. ذهب سالم مسرعاً مرتدياً زيه العسكري، ويحملني أنا حول عنقه. أنا وسالم كنا أول من رأينا وجه أحمد الصغير والممرضة تحمله إلينا مبتسمة ومبشرة بمولود ذكر سيخلد ذكرى سالم.

أشعر بالحزن ينتابني بعد افتراقي عن سالم، ولكنني أقرر المضي قدماً في حياتي كقلادة ارتداها في يوم ما أحد شهداء الوطن، اليوم أحس بالحماس والسعادة، فأنا أطوق عنق أحمد بن سالم، هذا الصغير ذي الثمانية أعوام أحبني كما أحبني والده، يصر على ارتدائي حول عنقه الصغير طيلة الوقت، يخرجني من تحت ملابسه ويظهرنيأامام زملائه ومدرسيه وهو يخبرهم عن قصتي وعن والده الشهيد، كم يذكرني بوالده، فهذا الشبل من ذلك الأسد.

نقف اليوم أنا وأحمد في الطابور الصباحي المدرسي ونحن نحتفل بفخر بعيد دولتنا الرابع والأربعين. نردد أنا وأحمد النشيد الوطني بأعلى الصوت، ثم يصرخ الجميع بصوت عال وهم يحيون الشهيد "وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه".

في طريق العودة إلى المنزل يخبر أحمد والدته عن كل ما جرى خلال الاحتفال، عندما اقتربنا من المنزل يشير سالم إلى لافتة جديدة وضعت على ناصية الشارع المؤدي إلى منزلهم ويقول "انظري يامي، شارع الشهيد سالم".

دموع السعادة تغمرنا في تلك اللحظة؛ ها أنا ألتقيك من جديد يا سالم، ستبقى ذكراك محفورة في قلوب وعيون الجميع الآن وكما كنت تتمنى سأحاول أن أعتنى جيداً بطفلك، أعاهدك أن أظل معه لأذكره كل يوم بمن كان والده. أنا مجرد قلادة ولكنني أحمل في رأسي ألف قصة عن الجندي سالم، وفي كل ليلة عندما يخلد الصغير أحمد في فراشه سأهمس له في إذنه بكل هذه القصص، سيكبر أحمد ليصبح جندياً جديداً يحمي بلده، وسيسير على خطى والده ومن يدري فقد يختارني أحمد لأكون قلادته الجالبة للحظ مثلما كنت لوالده، وكقلادة معدنية صغيرة، فإن ذلك الدور يكفيني.