(من الأشيف)
(من الأشيف)
الإثنين 30 نوفمبر 2015 / 09:04

اليوم يوم الشهيد

د.عبدالله السوبجي- الخليج

ترك وطنه وزوجته وأباه وأمه وأبناءه وأصدقاءه وحمل روحه على راحته وانطلق ليقاتل من أجلهم جميعاً، وهو يعلم أن الجندي له خيارات محدودة في ساحة المعركة، فهو إما أن يكون شهيداً أو جريحاً أو أسيراً أو يعود منتصراً، وشامخاً ومفتخراً.

وفي كل تلك الحالات هو خط الدفاع الأول عن الحق والقيم النبيلة وأمن المجتمع وسلامة الوطن وحاضره ومستقبله، وهو النموذج الأكثر نصوعاً لتجسيد الانتماء لوطنه والولاء لقادته، وهو المثل الأعلى للصغار والكبار، وعلامة منيرة للأجيال، قصة إقدامه تتناقلها الألسن بفخر، لتبقى روحه متوهجة، وسيرته أمانة في ضمير الشعب والوطن، ليواصل مسيرة البناء والتقدم والاعتزاز بالإنجاز.
(إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في ثمرة الجنة) حديث شريف.

لا أجد أبلغ وأجمل وأرقى من هذا الوصف لأرواح الشهداء، فهي صورة جمالية تحمل طهارة من نوع خاص، وسعادة تسر القلوب، فهي بالقدر الذي يمكن فيه تخيّلها ورؤيتها، إلا أنه من الصعب تجسيدها، فهي أقرب إلى الصورة النورانية الملائكية. ففي أجواف الطير تسكن أرواح الشهداء، والطير تعلق في ثمر الجنة، وفي نصوص أخرى (شجر الجنة) أما الأجواف فهي الحشا والحنايا وكل تجاويف الطير، أي الروح تسكن كل خلية من طيور الجنة.

والشهادة أنواع ودرجات، وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أربعين حديثاً، تدلل على عظمة مرتبة الشهيد، وتظهر أشكال الشهادة، فهناك من يستشهد في سبيل وطنه، وآخر في سبيل عرضه وماله، وثالث في سبيل علمه، ورابع في سبيل تحصيل قوت أفراد عائلته، وخامس وهو يقول كلمة حق أمام سلطان جائر، ومن المرضى من يموت شهيداً، والغريق والمطعون والمحروق شهيد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما تعدون الشهداء فيكم؟" قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: "إن شهداء أمتي إذاً لقليل!" قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: "من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد".

وقال عبد الله بن مسعود: (أشرف الموت موت الشهداء..)، أما الشعراء الكبار فقد أبدعوا وتفننوا في التغني بمعنى الشهادة ولفظ الشهيد، نظراً لقداسة الفعل وارتفاع المكانة. وأراد الشاعر سليم رشيد الخوري الملقب بالشاعر القروي أن يضع قانوناً لمطالع الشعر، وكيف يبدأ الشعراء قصائدهم، وقد كان الشعراء في الجاهلية يبدأون قصائد بالغزل أو بالوقوف على الأطلال.

والشهيد يتمتع بهذه المكانة الراقية في كل ثقافات العالم، وبنجامين فرانكلين، أحد مؤسسي الولايات المتحدة، وأحد رؤسائها الكبار تحدث عن الشهيد بعمق رابطاً فعله بالحضارة، فقال: (الشهداء هم الذين وضعوا أسس الحضارة)، ونعتقد أنه يرفع من شأن الذين سقطوا دفاعاً عن وحدة الولايات الأمريكية، أو في سبيل توحيدها، حيث وقعت حرب كبيرة بين الشمال والجنوب الأمريكي راح ضحيتها الآلاف، إلا أن نهايتها كانت باتحاد جميع الولايات ووقف الحرب، لتنهض دولة تعد أقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، وعلى الرغم من أن بنجامين فرانكلين الذي ولد في 17 يناير(كانون الثاني) 1706، وتوفي 17 إبريل(نيسان)، 1790 لم يشهد عظمة أمريكا، إلا أنه هو نفسه كان رجلاً سياسياً من الطراز الأول، وشخصية رئيسية في التنوير وتاريخ الفيزياء، فقد اخترع مانع الصواعق والنظارة ثنائية البؤرة وعداد المسافة وموقد فرانكلين، كما أنه هو أول من ابتكر كلمة electricity التي تعني كهرباء بالعربية، وعلى الرغم من ذلك، اعتبر أن الشهداء هم الذين وضعوا أسس الحضارة، فالشهيد وهو يسلم روحه في ساحة الحرب يكون في الوقت ذاته يبني السلام ويؤسس له، والحضارة لا تتحقق إلا في أوقات السلام والاطمئنان.

وهكذا هم شهداء الإمارات الذين لم يستشهدوا دفاعاً عن الحاضر فقط، وإنما لتعبيد الطريق إلى المستقبل، حيث يتواصل البناء، وتتطور الموارد البشرية، ويتعاظم الابتكار والتطوير، فتتكون الحضارة التي تشمل كل إنجازات الإنسان العلمية والمجتمعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتشريعية والقانونية ومجالات الحياة جميعها.

بهذا المعنى، الشهيد الإماراتي هو مساهم رئيسي في بناء الحضارة والمستقبل، وفي التقدم وتسريع عملية الابتكار والتطور، وازدهار النشاط الإبداعي في ميادين الحياة كافة.

إننا اليوم، ونحن نستشعر أرواح الشهداء في قلوب الطيور الخضر، نرسل لهم حبنا واعترافنا بجميلهم، وندعو أن يتم تدريس أبعاد هذا اليوم في منهاج التربية الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة. هذه الدولة التي تكمل بعد يومين عامها الرابع والأربعين، وهي تزهو بالفخر، بشعبها الوفي وقيادتها الحكيمة. ورحم الله الشهداء.