الإثنين 30 نوفمبر 2015 / 23:59

صوت الرئيس ونفير البارجة

أثناء حضوري حفل افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة بمصر، في السادس من أغسطس(آب) الماضي، حدثت واقعةٌ عابرة، استوقفتني، رغم مرورها على كثيرين، لكنها كانت بمثابة عصفور صغير همس في أذني: “الخيرُ قادمٌ على يد هذا الرجل".

كنّا جالسين أمام ضفّة القناة تحت قيظ الظهيرة ننصتُ إلى كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جموع المصريين والعالم. وفجأة، مرّت من أمامنا، وخلف ظهر الرئيس، سفينةُ بضائع عملاقة، تشقُّ صفحة المياه الوليدة التي جئنا نحتفل بميلادها في عرض القناة الجديدة. أطلقتِ السفينةُ أبواقَها صادحةً عالية، كأنما تُقدّم التحيةَ لمصرَ، ورئيسها وشعبِها وللعالم الذي ينتظر القناة التي ستنقل الخير من العالم وإليه. قاطع صوتُ بوق السفينة صوتَ الرئيس فيما يُلقي كلمتَه، فما كان من الرئيس المنضبط إلا الصمت والتوقّف عن الكلام، ثم استدار ووجّه بصرَه، مثلنا، صوبَ السفينة التي تمرُّ في هذا الممر الملاحي الجديد لأول مرة في حياتها. صمتَ الرئيسُ ونحّى الأوراق جانبًا وصفّق للسفينة مع المصفقين، فكأنما يردُّ التحية بأحسن منها، كما علّمنا اللهُ.

وقتها لم أكن أدري إن كانت تلك الواقعةُ الطريفة مقصودةً، أم عفوية غير مرتّبة. وقلتُ لنفسي إن كانت مقصودةً فقد صنعتْ رسالةً عبقرية غُزِلت دراماها بذكاء وإبداع. وإن كانت عفوَ مصادفةٍ، فقد قدّمتْ رسالةً قدريةً بليغة.

 توقفتُ كثيرًا عند هذه الواقعة التي رأيتها حاشدة بالمعنى. كأنما يود الرئيس أن يقول إن "صوتَ العمل" يجُبُّ "صوتَ الكلام". العملُ يكسرُ الكلام. وهل نحتاج سوى العمل من أجل الارتقاء بمصر وإعلاء شأنها في هذه اللحظة الصعبة من تاريخها؟ الرئيس عبد الفتاح السيسي، صمت حين تكلمتِ السفينةُ. فكأنما بصمته يقول: “أنا رئيسُ مصر، أحترمُ هذه اللحظة التاريخية التي تمرُّ فيها أول سفينة تجارية في المجرى الملاحي الجديد. هذه اللحظة هي ناقوس بدء العمل وتشغيل القناة رسميًّا، فوجب معها الصمتُ، لأن الصمتَ في حرم العملِ... عملٌ. يتحتمُ الصمتُ عن أي كلام حين يبدأ العمل، حتى وإن كان الكلامُ للرئيس أثناء إلقائه كلمته التاريخية للعالم وللمصريين في لحظة تدشين القناة الجديدة. كتبتُ مقالا حول الواقعة ووضعتُ سؤالي في نهايته: “هل الواقعة عفوية قدرية، أم مرتّبة؟

 إن كانت عفوية فقد كان بوسع مُنظّمي الحفل إبلاغ قبطان السفينة أن يؤجل وصول سفينته إلى حيث أمام المنصّة، حتى يُنهي الرئيسُ كلمتَه. وكان بوسع القبطان، وقد وجد الرئيس يتحدث، أن يمرَّ في صمت فلا يُطلق نفيره الذي قطع كلمة الرئيس. كلا السيناريوهين كانا منطقيين وأكثر قبولاً، لكنهما لم يكونا الأجمل. الأجملُ هو السيناريو الثالث الذي حدث بالفعل. كلٌّ سار في طريقه يؤدي عمله وفق برنامجه. الرئيس يفتتح القناة الجديدة ويقول كلمته للعالم، وقبطانُ السفينة يقود سفينته في طريقها لنقل البضائع إلى العالم. فإن تقاطعت اللحظتان، احترم الرئيسُ لحظة العمل وقدّمها على كلمته، وإن كانت تاريخية وينتظرها العالم.

ثم سافرتُ إلى أمريكا في اليوم التالي. وجاءتني مكالمة من الرئاسة تجيبُ على سؤالي: “الواقعة مقصودةٌ ومرتبة، والمعنى الذي وصلني هو المقصود بالضبط: "العمل قبل الكلام.”

 ازدادت بهجتي لأنني تأكدت من معدن هذا الرجل الذي قال والشعبُ يناديه للترشّح: "لو قبلتُ الترشّح للرئاسة لن تناموا. سنستيقظ في السادسة صباحًا لنبدأ العمل". وقبلنا شرطَه الصعب. ولكن ما حدث أنه ألزم نفسَه بما قال. فبدأ يومَه في السادسة وجعل الوزراء يذهبون إلى أعمالهم في السادسة صباحًا. بينما لم نلتزم نحن، للأسف، بالشرط الذي قبلناه، راضين مرضيين. فمازلتُ أرى الكسلَ والفوضى والتراخي ينهشُ في خاصرة مصر. فيا ليتنا لا نقف عند لحظة الفرح بافتتاح قناة السويس الجديدة، بل نعمل بكامل طاقتنا على استكمال مشوار الحلم الصعب والطويل الذي بدأت أولى خطواته الألف، في ذلك النهار الجميل. يومها تأكدتُ أن العمل لن يتوقف في القناة مع افتتاحها، بل ستتبعه مشاريعُ ومشاريع. وبالفعل بدأ العمل بالأمس في مشروع شرق التفريعة التي سيبطلُ بطالة ٣ مليون شاب مصري، ويدرّ الخير على مصر وعلى العالم بإذن الله.

قال الرئيسُ في كلمته: "سننتصرُ على الإرهاب بالحياة، وعلى الكراهية بالحب". وأقول لنفسي ولشعب مصر الطيب: "ولن ننتصر على الفوضى والفقر والفساد والقمامة والترهّل والكساد، إلا بالعمل". دعونا نصمتُ عن الكلام، كما صمت الرئيس عبد الفتاح السيسي لحظة مرور سفينة البضائع، حتى نسمح لسفينة "العمل" أن تمرّ.