الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 / 20:06

النموذج الأردوغاني كوسيلة إيضاح!

انتابت الرئيس أردوغان نوبة أقرب إلى الهستيريا، بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان في مصر، فتجاوز الأعراف الدبلوماسية، وحتى حدود اللياقة بين الحكّام والدول، في هجومه على النظام الجديد في القاهرة، بل واستخدم حتى لغة الجسد، فحوّل شارة رابعة الإخوانية، إلى ماركة شخصية مسجلة للتسويق الأيديولوجي في خطاباته التحريضية، وحملاته الانتخابية العامة.

كان يمكن لنوبة كهذه (وهي، بالمناسبة، ما تزال مستمرة) أن تكون مفهومة لو كانت للرئيس التركي مؤهلات، وقناعات، ديمقراطية حقيقية يصعب النيل منها، ولو لم تكن جزءاً من ميكافيلية سياسية لا تحتكم إلى معايير أخلاقية بقدر خدمتها لأوهام وأحلام إمبراطورية. كل ما في الأمر أن الإخوان كانوا ورقته الرابحة في مصر، وطارت الورقة من يده.

وفي هذا الصدد تُضاف حادثة اعتقال بعض كبار الصحافيين في تركيا، قبل أيام، إلى قائمة طويلة من المؤشرات التي تبرر التشكيك في مؤهلاته وقناعاته الديمقراطية من ناحية، وتُلقي مزيداً من الضوء على جوانب مُظلمة في مشروعه الإمبراطوري، من ناحية ثانية. فرئيس تحرير جريدة "جمهوريت"، مثلاً، المُعتقل بأوامر أردوغانية، لم يفعل سوى التدليل، بالوثائق، على حقيقة العلاقة القائمة بين حكومة أردوغان والدواعش في سوريا.

ولعل في دليل كهذا، إضافة إلى شواهد كثيرة، ما يبرر إحياء المقارنة بين دور تركيا الأردوغانية، في سورية، ودور باكستان ضياء الحق، في زمن "الجهاد" الأفغاني. ففي الحالتين طغت الأيديولوجيا على الحسابات السياسية المجرّدة، ونشأت علاقات ومنافع متبادلة بين حكّام البلدين وأكثر العناصر تطرفاً في المعارضة، تلك التي لم يجرؤ أحد على الاعتراف بالتعاون معها في العلن.

ومع ذلك، ما تفعله اللعبة الأردوغانية المزدوجة، في الواقع، أنها بدافع تغليب الأيديولوجيا على السياسة، تصب الماء في طاحونة آل الأسد، فتضفي على مزاعم النظام بمكافحة الإرهاب صدقية لا يستحقها، وتنتقص من جدارة المضمون الأخلاقي والسياسي والاجتماعي لثورة مشروعة على النظام الطائفي المريض.

وقد نفد الروس من هذه الثغرة إلى حقول القتل في سورية، بدعوى مكافحة الإرهاب، فازدادت فرص النظام المتهالك في البقاء. وثمة أكثر من فرق، في الواقع، بين دعم إيران المالي والعسكري والسياسي للنظام، وتدخّل الروس عسكرياً في سورية. فروسيا دولة عظمى بالمعنى العسكري والسياسي، يمكنها تعطيل القرارات الأممية في مجلس الأمن، فهي دولة دائمة العضوية، تملك حق النقض، ويمكنها دعم النظام الأسدي بأسلحة وتقنيات متقدّمة لا تملكها إيران، ويمكنها، أيضاً، التأثير على مواقف أطراف إقليمية ودولية مختلفة إزاء الحرب في سورية وعليها.

ولعل هذا ما برهنت عليه حادثة إسقاط الطائرة العسكرية الروسية، قبل أيام. فحادثة كهذه، وما تثيره من تداعيات سياسية وعسكرية قريبة وبعيدة المدى، تعني أن الحرب في سورية، وعليها، تقترب من إمكانية التحوّل إلى حرب إقليمية مكشوفة، تُسدد فيها الحسابات بين قوى كبرى، في ميادين متعددة للقتال.

وحتى إذا لم يحدث ذلك، فقد أعطت حادثة إسقاط الطائرة للروس ذريعة إدخال المزيد من الجنود، وأنظمة الصواريخ المتقدّمة إلى سوريا، وبددت احتمال فرض الحظر الجوي على مناطق بعينها في سورية، حماية للمدنيين من ويلات البراميل المتفجرة، وطائرات النظام.

لا يمكن، بطبيعة الحال، إلقاء كامل المسؤولية على عاتق تركيا الأردوغانية، فالقوى الإقليمية والدولية، الفاعلة في سورية، منذ اندلاع الثورة على نظام آل الأسد، كثيرة العدد، وكثيرة العدد ومتضاربة، أيضاً، مصالح ورهانات المضاربين في سوق الدم السورية.

ومع ذلك، يظل النموذج الأردوغاني وسيلة إيضاح مثالية لما ينجم عن تغليب الأيديولوجيا على السياسة من مخاطر وكوارث ماثلة للعيان، وأخرى مُحتملة، ناهيك عن استمراء الميكافيلية السياسية والأخلاقية، التي تُسوّغ قياس ثوابت السياسية الخارجية على مسطرة أوهام سلطانية وعثمانية مضى عهدها وانقضى.