الأحد 31 يناير 2016 / 22:55

"وثيقة المدينة" هل توقف الأقليات الدينية عن افتراس بعضها؟

عندما لا تكون المواطنة قيمة عليا، فإن الخطر يتربص بالدولة الوطنية، وحينئذ تلعب ثنائية الأغلبية والأقلية المدججة بالمشاعر الدينية الزائفة، دورا يفوق الدور الذي ينبغي للدولة الوطنية أن تنهض به، ثمّ يتعقد الأمر أكثر، فتتفتت الأغلبية إلى أقليات تتخذ من التطرف الديني سلاحاً رئيسياً لها، لتسبح فوق بحر طافح بالدم والاحتراب والموت يتنكر لعمق الإسلام ويعيد تأويله ليصبح ضد المسلمين أنفسهم!

ثمة إذن ضغائن ومصالح شتى توجه الأقليات إلى طريق مليء بالأساطير والخرافات الدينية التي تمزق البشر، وهو ما جعل علماء الاجتماع والمفكرين والفلاسفة والفنانين والمثقفين يقفون عاجزين عن وصف ما يحدث، وقد يكون غياب الرؤية الفاحصة سببا في غياب تأثيرهم، أو قد يكون صوتهم، بما أنه صوت الثقافة الدنيوية والعقلية لا يكاد يسمع مقارنة بالهدير الصارخ والنشاز الفادح للنزعة الدينية المتشددة التي تستبيح العقل والعقلانية لتجعلهما بلا محل يقصد ولا وجود يذكر ولا أثر يعرف.

إنها أسباب، مجتمعة أو متفرقة، تمنح رجال الدين اليوم مسؤولية مضاعفة نسأل الله أن يعينهم على تنكبها، ليناقشوا الحلول التي يطمح كل مسلم في الوصول إليها، وليوقفوا البشاعات التي تظهر بحجة المذهبية المتنكرة بأقنعة الطائفية أو الأقلية أو الجماعات الدينية أو ما شابه. وعلى رأس هؤلاء يقف اليوم العلامة عبد الله بن بيّه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ومقره أبوظبي في مؤتمر دولي مهم رعاه ملك المغرب محمدالسادس لحقوق الأقليات الدينية في الديار الاسلامية وكانت فعالياته بمراكش الأسبوع المنصرم، وقد ناقش هذا المؤتمر العوامل المتداخلة التي تجعل المشاعر الدينية لدى الفرد تتفوق على المواطنة لينضوي في أقلية دينية أو جماعة إرهابية بعينها تحترف الخراب والإرهاب وتمتهن الأسطورة والخرافة لتبرير أعمالها الإجرامية وصولا إلى نيل الجائزة السحرية في الآخرة.

ولعل هذه الفوضى في تحديد مفهوم الأقلية أو حتى غياب الأقليات اللغوية والثقافية والعرقية والإثنية غياباً تاماً اليوم وتصدّر الأقليات الدينية في العالم العربي بديلا عنها , يجعلنا جميعا نشعر بمزيد من القلق على الإرث الإنساني الذي شارف على الاندثار، ليحل محله إرث ديني هش ومصطنع وزائف، ويجعلنا في الوقت نفسه نتساءل: هل الأقليات الدينية في العالم العربي هي أقليات بالمعنى الدقيق للكلمة! هل هي قديمة أم مستحدثة، وما المصير الذي ينتظرها، وكيف يمكن في ظل هذا الغموض الذي يكتنف الأقليات الدينية في العالم العربي، سواء أكان من حيث المفهوم أم الممارسة، أن يتجاوز الشرق الأوسط ,تحديدا, محنته وأزمته الوجودية؟ وما مصير الأقليات غير الدينية المستضعفة والمسالمة في ظل سيادة الأقليات الدينية؟ تلك التي شقّقت دين الأغلبية إلى طوائف وجماعات لا يعترف كل منها بوجود الأخرى، وتدّعي امتلاكها الحقيقة المطلقة واحتكارها للصواب، ومن المخوّل الحقيقي للحديث باسمها وتمثيلها واجتراح الحلول؟ وهل الدساتير العربية ومفاهيم المواطنة والدولة الوطنية هي الحل الأسلم أم الدين ووقائع التاريخ والماضي الدفين الذي كان وما يزال سببا في الاحتراب والدمار الممعن بالعالم العربي!

ويبدو أن مثل هذه التساؤلات تشغل القائمين على منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وقد شغلته في مؤتمره بمراكش، عندما وجد رئيسه العلامة بن بيه أنّ الحل يكمن في إعادة بعث "وثيقة المدينة" من مرقدها، واعتمادها صيغة للمواطنة، فتكون صيغة توافقية تحمي الأقليات الدينية من نفسها وتحمي المواطنة منها في الوقت نفسه، وتعمل على جمع الأقليات الإسلامية بالأقليات غير الإسلامية في المواطنة التي باتت الأقليات الدينية تتهددها بالدرجة نفسها التي تهدد بعضها بعضاً.

فالوثيقة التي أطلقها الرسول الكريم فور وصوله إلى المدينة، والتي تبدو واقعية أكثر من كونها مثالية، صحيحة أكثر من كونها موضع شك وتساؤل، تحتاج، قبل أي شيء آخر، إلى أن تحظى بالإجماع وإلى الاقتناع بأنها مطلقة الدلالة لا مقيدة، وفي الوقت نفسه أن تقرأ قراءة واحدة، وأن يتفق المسلمون أولاً بأنها تعبر عن الواقع المخصوص الذي يعيشونه، وأن يتقدم العلماء بها درجات وخطوات، فيعينوا قراءة واحدة لها تعبّر عنهم وتستجلي ظروفهم وآمالهم وتطلعاتهم، بحيث يصح معها التطبيق إن شرّعت والفهم إن قرّرت، حتى لا تتخذ ذريعة لمزيد من التمزّق والخلاف، خاصة وأنها واقعة في التاريخ ومليئة بالالتباسات والغموض، الأمر الذي يجعل الوثيقة، أمام هذا الكم الكبير من القراءات والتأويل، وثائق عدة لا وثيقة واحدة، كل يفسرها كما يحلو له، وكل تفسير وتأويل لها، يكتسب مسوغاته العلمية أيضاً، وأظن أن ذلك أحد التحديات التي تواجهها وتمنع حضورها على النحو الذي نتطلع إليه في المجتمعات العربية.

لقد أسست "وثيقة المدينة" رغم توالي القرون عليها، بصيرة مشعّة في ليل عربي دامس، وظلت، كما هي دوماً، مورد تأمل لرئيس منتدى تعزيز السلم العلامة بن بيّه الذي، كما يبدو، قد تأملها وفحصها منذ عقدين من الزمان، واقتنع اقتناعاً علمياً بأنها تجيب عن أسئلة الراهن المحدقة بالأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة، وبإمكانية أن تولّد حلولا للتحديات، فالمطّلع عليها يجدها قد قاربت الأقوام والجماعات والديانات والطوائف آنذاك بوصفهم "أمة واحدة من دون الناس"، واعترفت بالأديان سواء أكانت الأديان الإبراهيمية أو غيرها، وجعلت "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، قادرة على التمييز بين مفهوم المؤمن والمسلم تمييزا عظيما ينبغي أن نؤصله ونتخذه موردا للتبصر ونبعا للرؤية.

كما اعترفت وثيقة المدينة أيضا بالعشائر والقبائل وجماعة المنافقين والمؤلّفة قلوبهم والمشركين والوثنيين ما لم يجيروا "مالا لقريش ولا نفساً"، داعية إلى نصرة المظلوم سواء أكان مسلما أو غير مسلم، جاعلة هذا المزيج والتعايش والتنوع في المجتمعات مكوّناً أصيلاً وخلاّقاً للأمة التي تنبثق من الأطر السياسية والمدنية لا العقيدية الدينية الضيّقة، مؤكدة مفاهيم المواطنة المكلّفة بالدفاع المشترك عن الوطن أمام أي اعتداء خارجي، كافلة حقوق الإنسان وحرية الرأي بـ " النصح والنصيحة والبر دون الإثم".

إن اعتراف الوثيقة منذ صدر الإسلام بغير أهل الكتاب، يعد اليوم أحد أكبر التحديات التي تواجه بلاد المسلمين الذي يرفض بعض دعاته وفقهائه، بلا سند ديني بيّن، بناء المعابد الهندوسية أو البوذية وغيرهما أو ما يسمى قديما بالوثنية، قاصرين الحوار الإسلامي على أهل الكتاب من المسيحيين واليهود دون الملل والنحل الأخرى، رغم أن الإسلام في جوهره العظيم المتسامح، كما يتجلى في وثيقة المدينة القديمة، قد وضع الأسس والقواعد المدنية التي يحترم فيها كل أطياف المجتمع بعضه بعضا منفتحا على الآخر مهما كان دينه ومعتقده دون احتكار الصواب أو امتلاك الحقيقة المطلقة وبعيدا عن ثنائية دار الإيمان ودار الكفر أو الفسطاطين, التي تعد في الراهن المعاصر ضرباً من الوهم، إذ ما زالت هذه الثنائية تفعل مفاعيلها السحرية على المجتمعات المسلمة وتعوق دون قبول الآخر من خارج الأديان الإبراهيمية.

إننا نحتاج إلى روح هذه الوثيقة أكثر مما نحتاج إليها حرفياً. فقد تغيرت المجتمعات العربية والمسلمة منذ ذلك التاريخ ووضعت عقوداً اجتماعية كثيرة تضبط العلاقة بين مكوناته. والوثائق والعقود لا تبقى على امتداد الدهر, بل يبقى جوهرها المتعالي وتفردها الكامن في الروح لا في التفصيلات. روح الوثيقة هي روح الإسلام الذي يقبل الاختلاف والتعدد داخل النسيج الاجتماعي ويقر كما يقول كتاب الله الكريم "لا إكراه في الدين". لكن على العلماء أن يجددوا في التفصيلات وأن يكون تجديدهم هذا منبثقاً من روح العصر وطبيعة المجتمع وظروفه وبنيته وتكتلاته. وعندما أتذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام" يبعث الله على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة دينها"، أعرف أنّ الكثير من فقهائنا جامدون في الأصول ومقلدون في الفروع ونحن نحتاج إلى هذا التجديد الذي يعيد الروح إلى الوثيقة وإلى المجتمع معاً.