خلال حفل الإطلاق
خلال حفل الإطلاق
الثلاثاء 2 فبراير 2016 / 22:19

جابر بن حيان في حمى محمد بن راشد

كان الحفل الذي حضره يوم أمس الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، لإطلاق مكتبة محمد بن راشد العالمية، حفلا شيّقا ومفرحا وباعثا على البهجة ، وملهبا للمشاعر ومشعلا لشرارة التفكير. إنه احتفال برزت فيه الرؤية الحديثة إلى جوار التاريخ الملهم والحكمة الرفيعة التي لا تنبثق من الذاكرة وتظل غير قابلة للتنميط، كيف لا وهي تقتبس من المعاصرة ولا تتفلّت من بيئتها أو تتعالى عليها وتمتح من الأصالة ولا تستسلم لموروثها. لذا جاءت المكتبة نابضة بالتنوير، تعترف بقيمته, تكبره وتعلي من قدره وتجعله هدفا وغاية ومبتغى، متدفقة من المدارج النورانية المشعة ببصيرة الشيخ محمد بن راشد.

التنوير، هو الرسالة والرؤية، والمكتبة بأعمدتها بدت تجليا من تجلياته، ولا نجانب الصواب إن قلنا، بأنه قد أسهم في رفد رؤية الشيخ محمد بن راشد، فأوجد له مكانا مشعا، يمتزج بالماء، بسكينته الهادرة، وبإيقاعات الحياة الصاخبة والباحثة لها عن فسحة أخرى لتملأها بالوعي. ومثلما عايش الشيخ محمد بن راشد بصائر التنوير فلمس أثره، أراد أن يكون نبعا متدفقا، فأخلص له بعدما اختبره، وعرف قيمته العليا في الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا كان ذلك كذلك فلابد أن يكون التنوير واجهة ووجهة، يقصد الناس ويقصدونه، ويكون الكتاب هو الفضاء الذي تنتقل المعرفة منه وإليه، وإن لم يكن التنوير متأهبا ليملأ الفراغات التي يتسلل منها وبواسطتها المتشددون فإن عصرا من الظلام الدامس سيعيد نفسه، وعلى المتبصّر أن لا يهمل دروس التاريخ، الذي ذكّر به الفيلم الذي أعد خصّيصا لمناسبة حفل إطلاق مكتبة محمد بن راشد العالمية.

برزت ثنائية الضوء والنور في مقابل الظلمة والديجور، ثنائية رمزية ساطعة في الفيلم تعبر عن عمق رسالة مكتبة محمد بن راشد العالمية، وتصور على نحو دقيق الانكسارات والإخفاقات والخراب الذي حل بالعرب في راهنهم المخيف، حيث غاب النور عن عالمهم، ما عدا بصيص ساطع هنا وهناك.

لقد محق الجهل العلم، وأفسد النقل العقل، ثم عشّش التشدّد في الخيال، وصار ضيق الأفق المتحدر من عصور الظلام القديمة مغويا، له فقهاؤه وأمراؤه الذين يمقتون نور المعرفة ويسعون بشتى الطرق لتجهيل الوعي وإفقار المخيلة، وهكذا صار الفهم معطلا للمعرفة وغدت العلوم بلا قيمة وصارت الحضارة متهمة لا جدوى من ورائها. هل يحتاج العرب إلى مصباح ينير عالمهم الجديد، هل يحتاجون إلى مشروع ثقافي تنويري في المنطقة، وهل يحتاجون منارة للفكر تضيء لهم الدرب من جديد؟ كان الجواب نعم، مكتبة محمد بن راشد العالمية ستكون هي الوعد المرتقب في 2017.

جعلت مكتبة محمد بن راشد العالمية رسالتها "التنوير"، كما جاء في فيلمها التعريفي لتجمع في عمقها كافة أركانها الحداثية وأهدافها الجديدة وتقنياتها ومبادراتها الملهمة، لتظهر على النقيض من الأسطورة والخرافة والجهل والتجهيل، ولتعطيها بصمتها الخاصة في عالم المكتبات ورؤيتها المميزة وطموحها الاستثنائي، وتجعلها واسطة العقد بين ماض تليد وحاضر ناهض يتطلع إلى مستقبل أنضر وأجمل للإماراتيين والعرب جميعا، كما تجعلها في الوقت نفسه سدا منيعا، عبر الوقوف الحازم لمنع عصور الظلام من أن تجد لها ثغرة تتسلل منها فتغرق الشباب بالأوهام والخراب. وعندما قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في سياق الإعلان عن مكتبته بأن "العالم العربي يواجه فجوة معرفية حضارية ولا بد من مشاريع بحجم هذا التحدي الثقافي التاريخي"، كان يقول بصورة أخرى، إنّه لا بد من ان تملأ الفجوة بالمعرفة الحضارية حتى لا تمتلىء بالاحتراب والجهل، فتقع المجتمعات ضحية التحديات المحدقة بها، والمكتبة أدركت منذ إعلانها، بأن الأساس الحي هو المحتوى التنويري والمضمون القادر في طموحه أن يصمد أمام التحدي التاريخي الذي تمر به المنطقة، فالكمّ ، رغم أهميته، ليس الأساس.

تكمل مكتبة محمد بن راشد العالمية رسالتها، كما تجلت في الفيلم، وتتوقف، على نحو موجع، عند مسألة إتلاف الكتب وحرقها وحجبها، ففي الحرق بشاعة ما بعدها بشاعة, مصورة القوى الرجعية التاريخية، والأزمنة التي لم ترحم العلماء ولا كتبهم مستشهدة بعالم الكيمياء جابر بن حيان وعالم الرياضيات والفلك الشهير الخوارزمي والفيلسوف الطبيب ابن سينا وعالم البصريات والفلسفة العلمية ابن الهيثم الذين أحرقت كتبهم ومنعت وأتلفت، وقد شرع لذلك ابن تيمية وتلامذته بحجة الكفر والبدع والزندقة والإلحاد والسحر والتنجيم، وأغرب هذه الذرائع التي ساقتها القوى الرجعية هي التأثر بالآخر اليوناني، وهي من التهم العجيبة الموغلة في كراهية الآخر، وها هو ذا داعش ومن لف لفه من السلفية المتشددة يحذو تلك التقاليد الظالمة والمتخلفة حذوك النعل بالنعل، في مرحلة استثنائية عصيبة يمر بها العرب، تهدم فيه المكتبات وتحرق الكتب وتتلف المخطوطات الثمينة، حدث ذلك في الأنبار والموصل وغيرهما، وكل ذلك يقع باسم الاسلام!

من هنا تكتسب مكتبة محمد بن راشد العالمية خصوصيتها، إذ لا توجد مكتبة في العالم العربي إلى يوم الناس هذا، قد أعلنت بأن رسالتها العلم والمعرفة في مواجهة الفوضى والإرهاب والجهل، ولاشك أن "التنوير" الذي رفعته المكتبة شعارا يقدم الحلول الناجعة ، ذلك أن المواجهة فهم وإدراك وارتحال أيضا في بحر متلاطم الأمواج وعميق يتطلب حربا حكيمة تخاض من أجل القلوب والعقول، سعيا إلى إحلال العلم والنموذج التجريبي وقوانين العالم الطبيعي والتطور الاجتماعي لتعزيز التفكير والوعي ومن ثم الانعتاق من الحقائق الجاهزة والمبتذلة والمزجاة على قارعة الطريق تلك التي تجعل الإنسان معتمدا على الخرافة بدل العلم وعلى النقل بدل العقل وعلى الظلمة بدل النور.

لعل مكتبة محمد بن راشد العالمية، وهذا ما نطمح إليه, تقدم ركنا, إضافة إلى أعمدتها المهمة والأساسية, تستعرض فيه محنة الكتاب العربي القديم ومصاعب التأليف في التاريخ الإسلامي، وانتقال الكتاب من القرن الثاني الهجري وصولا إلينا في هذه اللحظة الصعبة العاصفة بالجمال والنور. إنه سفر شاق وطويل، ممتع بقدر ما هو مؤلم شيّق بقدر ما هو جارح، اعترضت فيه الكتب الفتاوى الدينية المتشددة، حاولت اغتيالها بشتى الطرق محرضة ومشوهة، فكادت الكتب العربية تفنى وتنقرض، أتلف منها الكثير والكثير، لكنها وبلاشك بقيت ببقاء الثقافة التنويرية أقوى من التشدد وأرسخ من الطارئ المعتم وأكثر قدرة على الصمود من الفتاوى المظلمة، فبينما عجزت القوى الرجعية والتكفيرية عن إيقاف وصولها إلينا مخترقة الأزمنة المظلمة، ظلت الأفكار في بناء المكتبات وحماية الكتب والتأليف والرأي متوهجة، ولعل واحدة من أكثر تجلياتها كانت مكتبة محمد بن راشد العالمية التي برزت تاجا تزينها وترفع من هامتها عاليا.