الجمعة 5 فبراير 2016 / 10:40

أم كلثوم .. وستي "هنية"

كان "أحمد فؤاد نجم" الذي رُحِّل في صباح ذلك اليوم إلى نيابة أمن الدولة العليا، لكي تستكمل التحقيق معه، هو الذي عاد إلينا عند العصر، في عنبر التأديب بسجن ليمان طرة، وهو يحمل خبر وفاة "أم كلثوم".. وكانت أسابيع قد مرت علينا ونحن في حالة حبس انفرادي مطلق، عزلنا خلالها عن العالم، ولم نسمع أية أخبار عما يجري خارج أسوار العنبر التي أغلقت علينا. وما كدت أسمع الخبر، حتى تكثف إحساسي بالوحدة والحزن وتتالت مشاهد من الزمن الذي عشته أستمع إلى أغانيها، فأتأمل في معانيها وأردد مقاطعها.. في لحظات الشدة والفرج.. وفي أوقات الفرح والشجن..

وكانت "ستي هنية" -جدتي لأبي- هي واسطة التعارف الأول بيني وبين صوت "أم كلثوم"، إذ كانت تقيم وحدها في الطابق الأول من منزلنا بالقرية، ولأنها كانت تخاف من النوم وحدها، بعد رحيل جدي قبل سنوات، فقد كانت تحرص على أن تشحذ أحد أحفادها لكي ينام إلى جوارها، فى ليالي الشتاء الطويلة، ولأننا - ككل الأطفال - كنا نفضل أن ننام في أحضان أمهاتنا، فقد كانت تغرينا - فضلاً عما تقدمه لنا من حلوى - بالراديو الوحيد في المنزل، الذي كانت تختص به باعتبارها عميدة نساء الأسرة، فكنا نتحلق حوله، صباح كل يوم جمعة، لكي نستمع إلى ركن الأطفال الذي يقدمه بابا شارو، ومع أننا لم نكن نجد فيما يقدمه الراديو من برامج - في فترة المساء والسهرة - ما يغرينا بالاستماع إليه، أو قضاء الليل بعيدًا عن أحضان أمهاتنا، إلا أننا اضطررنا لقبول القاعدة التي وضعتها جدتي، والتي تقضي بأن يقتصر امتياز الاستماع إلى برنامج "بابا شارو" على أحفادها الذين يقبلون قضاء الليل في غرفتها..

وكانت الليلة التى حل عليّ الدور فيها، لكي أمضيها في غرفة جدتي، هي ليلة الجمعة الأولى من الشهر، التي تعودت الإذاعة اللاسلكية للمملكة المصرية منذ عام 1934، أن تنقل خلالها حفلاً غنائياً تحييه كوكب الشرق "أم كلثوم" على خشبة مسرح الأزبكية.. ولم أفهم سر اهتمام جدتي بالحفل، وقبل أن يبدأ كنت قد غرقت في النوم.. وبعد فترة استيقظت على صوت بكاء جدتي.. وهي تنادي على شخص ما، وحين تنبهت إلى ما يجري حولي، استطعت أن أجمع مكونات المشهد، كانت "أم كلثوم" تعيد تكرار مطلع أغنيتها الشهيرة "سهران لوحدي" - التي كتبها الشاعر أحمد رامي ولحنها الموسيقار رياض السنباطي - وهو يقول "سهران لوحدي/ أناجي طيفك الساري/ سابح في وجدي/ ودمعي ع الخدود جار" بينما كانت جدتي تبكي بالفعل، وتهتف وهي تتساءل بحسرة: أنت فين يا "متولي" - وهو اسم جدي- فأدركت أن المرأة العجوز، التي اقتربت من الثمانين تفتقد شريك حياتها الذي عاشت معه أكثر من أربعين عاما، وأنها وجدت فيما تغنيه "أم كلثوم"، ما يعبر عن إحساسها بالفقد والوحدة بعد رحيله.. وأخذت أتابع الأغنية وأحاول أن أفهم معاني كلماتها التي أبكت جدتي، إلى أن غلبني النوم.. ليكون ذلك هو مشهد الافتتاح الذي جعلني بعد ذلك أحرص على متابعة حفلات "أم كلثوم" الشهرية، التى ظلت تقدمها إلى ما قبل وفاتها بشهور قليلة.

وفيما بعد تأملت في الظاهرة الفنية والاجتماعية التي كانت تمثلها "أم كلثوم"، وحاولت أن أبحث عن سر الجماهيرية الواسعة، التي ظلت تتمتع بها على امتداد ما يزيد على نصف القرن، ولا تزال تحتفظ بها بعد ما يزيد على أربعة عقود من رحيلها، والتي رفعتها من أدنى مراتب السلم الاجتماعي إلى القمة لتظل تجلس عليها حتى الآن، ومن فلاحة فقيرة ولدت فى قرية لا تختلف عن آلاف غيرها من القرى المصرية، إلى جليسة وسميرة للأدباء والشعراء والصحفيين والملوك والأمراء، ولتحصل - في عهد الملك فاروق- على وسام لم يكن يمنح أيامها إلا لسيدات البيت المالك، وتحمل مثلهن لقب "صاحبة العصمة" فضلاً عن الأوسمة والنياشين التي حصلت عليها من الملوك والأمراء والرؤساء العرب والأجانب.. بل وسعت المخابرات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، إلى جمع أسطوانات أغانيها وأغاني الموسيقار "محمد عبدالوهاب" لكي تبثها عبر الإذاعات التي كانت توجهها للشعوب العربية خلال الحرب، لكي تجتذب أسماع هذه الشعوب إلى برامج الدعاية التي تقدمها، وحين اخترقت الجيوش الألمانية الحدود المصرية، خلال تلك الحرب، وضعت المخابرات البريطانية خطة لانسحاب قواتها العسكرية من مصر إلى السودان، ومعها كل أركان الدولة المصرية، لكي تؤسس بها حكومة في المنفي، وكانت هذه الأركان تشمل الملك فاروق ومجلس الوزراء ومجلس النواب وكلا من "أم كلثوم" و"عبدالوهاب"، لكي تحرم القوات الألمانية من إذاعة أغانيهما الجديدة واستغلالها في اجتذاب المصريين والعرب للاستماع إلى ما تبثه من محطة إذاعة القاهرة المحتلة!

لم تكن موهبة "أم كلثوم" الفطرية هي وحدها التي أهلتها لهذه المكانة، بل كان الذي أهلها لها كذلك هو الجهد الشاق الذي بذلته لكي تحافظ على هذه الموهبة، ولكي تتقن الفن الذي تقدمه، وإصرارها على أن تراهن على الأرفع والأنفع فى الفن، بأن تحسن اختيار النصوص التى تغنيها، وتحسن اختيار الملحنين الذين تعهد إليهم بتلحين هذه النصوص بل الموسيقيين الذين يعزفون هذه الألحان.

كانت "أم كلثوم" تنويعًا على إحدى أهم خصائص الشخصية المصرية، التي تعتبر العمل عبادة، وتحرص على إتقانه وتجويده، وتجد متعة في ذلك، تفوق متعة الكسب المادي من ورائه، وكان من حسن حظها وحظنا أن موهبتها بدأت تتوهج فى الفضاء العام، في الزمن الذي تفجرت فيه ثورة 1919، وبدأت فيه مصر تسعى للتحرر من الاستعمار والتخلف فوجدت "أم كلثوم" نفسها وسط كوكبة من المواهب في كل مجال، تسعى لتجديد الوطن، لكي يستحق المكانة التي كان يحتلها في التاريخ القديم.. مدت إليها اليد، وساعدتها، واحتفت بموهبتها لكي تظل - على امتداد الزمن- شهادة للوطن، بأنه قادر على إنجاب المواهب العظيمة في كل زمان.. من عصر ستي "هنية" إلى عصر أحفادي.