السبت 6 فبراير 2016 / 19:00

عولمة التنظيمات الإرهابية ... من "القاعدة" إلى "داعش"

يتبادر إلى أذهان الكثيرين من بين الباحثين، وصناع القرار ومتخذيه، والقائمين على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دول شتى، أن حدث 11 سبتمبر 2001 كان تعبيرا جليا عن "تعولم" الحركة الإسلامية الراديكالية، التي انزلقت إلى "الإرهاب"، من منطلق أنها استطاعت أن تمس عصب أكبر دولة في عالمنا المعاصر، عسكريا واقتصاديا، وهي الدولة التي تقود العولمة، وتصنع الجزء الأكثر أهمية من أشكالها وآلياتها ومقاصدها، خاصة في مجالات المال وتقنيات المعلومات والاتصال والاستراتيجيات.

وما زاد من وجاهة هذا التصور وأعطاه مصداقية نسبية، أن رد فعل واشنطن حيال الحدث المذكور أخذ صيغة عالمية، من خلال سعي الإدارة الأمريكية إلى بناء تحالف دولي مناهض للإرهاب، وعبر استغلالها له في تحقيق أهداف استراتيجية عميقة ترتبط بسعيها إلى قيادة "العولمة". وهذا التصور يبدو دقيقا إن كنا بصدد تقويم القدرة التي وصل إليها تنظيم حركي ذو أهداف سياسية، تتعدى حدود الدول التي ينتمي إليها أفراده، وتحاول أن تلعب دورا ما في السياسة الدولية المعاصرة برمتها. لكن التصور ذاته تعوزه الدقة حال الأخذ في الاعتبار المحطات الزمنية التي مر بها هذا التنظيم في طريقه من المحلية إلى العالمية، انطلاقا من لحظة البداية التي تشكل فيها، وحتى لحظة الذروة التي تمثلت في تفجير برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك ومقر البنتاجون، مرورا بمحطات عدة صنعتها أنظمة سياسية إقليمية ودولية، عبر أجهزة استخباراتها وأمنها ومخططي سياساتها.

فإذا كان التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان المسلمين" جزءا من كيان الجماعة، التي ولدت في ظرف تاريخي، جعلها تضع نصب عينيها منذ البداية ضرورة أن تعبر القوميات من أجل تحقيق "الخلافة الإسلامية" التي سقطت عام 1924، أي قبل قيام هذه الجماعة بأربع سنوات فقط، فإن الحركة الإسلامية الراديكالية ـ ونتحدث هنا عن تنظيم الجهاد المصري الذي تحالف فصيل كبير منه مع أسامة بن لادن ـ لم يكن ضمن أولوياتها لحظة تشكلها التحرك خارج حدود الدولة، وتكوين "تنظيم دولي" ما، بل كانت أهدافها محددة في قضايا محلية أو داخلية، ذروتها تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باعتباره في نظرها "حكما كافرا" أو "ظالما" و "فاسقا" على أقل تقدير، لأنه "لا يطبق الشريعة الإسلامية"، بالصيغة التي ترى هذه الجماعات أنها تعبر عن "صحيح الإسلام". ثم جاءت ظروف سياسية، نجمت أساسا عن صراع دولي خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي المنهار والولايات المتحدة الأمريكية، جعل تنظيم الجهاد يطل برأسه خارج الحدود المصرية.

وبعدها تراكمت الأسباب التي جعلت من "الهجرة" مرحلة ضرورية تكتيكيا بالنسبة لهذا التنظيم. ومن هنا انفتح الباب أمام "تعولم" فصيل من الإسلاميين الراديكاليين المصريين، بعد أن قاده التحالف مع أسامة ابن لادن والمجموعات المتحلقة حوله، أو التي تقدمه عليها زعيما وقائدا، إلى تغيير وجهة سياساته، من إسقاط النظام الحاكم في مصر إلى قتال الولايات المتحدة وحلفائها.

والوصول إلى هذه المرحلة لم يتم عبر قفزة سريعة أخذت هؤلاء من التحرك محليا إلى منازلة أكبر دولة في عالمنا المعاصر، إذ إن الخروج من مصر لم يغير، طيلة ثلاثة عقود تقريبا، من تفكير قادة وأعضاء مختلف "الجماعات الإسلامية الراديكالية"، وهو التفكير الذي انصب أساسا على أن الهدف الرئيسي هو إزاحة النظام المصري، بوصفه "العدو القريب"، وبعدها يمكن التفكير في مجابهة "العدو البعيد" وفي المقدمة الولايات المتحدة وإسرائيل بعد أن تهاوى الاتحاد السوفيتي وانفرط عقد دول أوروبا الشرقية الشيوعية.

ومن هنا كانت "الهجرة" خارج مصر تستهدف تحقيق "التمكن" الذي لم يكن من المتاح الوصول إليه في مصر نفسها، نظرا ليقظة الأجهزة الأمنية وصرامة السلطة الحاكمة في التعامل مع أي جماعات خارجة على القانون، وبعد ذلك تأتي مرحلة "الفتح"، الذي يعني دخول أعضاء هذه الجماعات إلى مصر فاتحين على غرار الفتح الإسلامي الأول في محاولة إعادة إنتاج حدث تاريخي بشكل تبسيطي لا يخلو من سذاجة كبيرة.

ومن ثم يمكننا فهم سر إطلاق تنظيم الجهاد على العناصر التي دفع بها إلى مصر في عقد التسعينيات من القرن الماضي لاغتيال بعض رموز السلطة السياسية وضرب السياحة اسم "طلائع الفتح"، وهي خلايا كانت تعمل تحت قيادة أيمن الظواهري.

لكن العوامل القديمة التي ساهمت في إيجاد مسألة "الهجرة" لم تلبث أن رشحت على هذا التفكير، وكان من الصعب أن ينسلخ تنظيم الجهاد المصري تماما عن الأطراف التي ساهمت في تشكيل حركة عناصره إلى الخارج، وتحديدا إلى أفغانستان. ومن ثم ما إن خرجت القوات السوفيتية من هذا البلد ونشبت حرب أهلية بين فصائل "المجاهدين" حتى وجد "الراديكاليون الإسلاميون"، الذين انضووا تحت مسمى عريض هو "الأفغان العرب" أنفسهم موزعين على تكتيكات واستراتيجيات أطراف إقليمية ودولية، بعضها استخدم الهاربين من قيادات الجماعات المتطرفة أوراقا في يده يناور بها الحكومة المصرية، وفي مقدمة هذه الأطراف تأتي الولايات المتحدة، التي تردد أنها أجرت اتصالات مع قيادات من "الإخوان المسلمين" و "الجماعة الإسلامية"، إبان فترة العنف الأخيرة والعصيبة التي مرت بها مصر، وامتدت من 1989 إلى 1997 .

وبعض هذه الأطراف عول على هؤلاء في تحقيق أهداف بعيدة المدى تخص إقامة "أممية إسلامية"، مثل ما هو حال السودان طيلة عقد التسعينيات. بالإضافة إلى ذلك استفاد بعض الهاربين من بين من حاربوا في أفغانستان من قوانين اللجوء السياسي في دول أوروبا، وحصل كثيرون على فرص عمل في بلدان عربية خليجية وغير عربية، ووجد آخرون في بؤر الصراعات المسلحة، أو ما يطلق عليها "البؤر الملتهبة"، في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، والشيشان، وكشمير، وطاجيكستان، والفلبين، مأوى بعد أن أوصدت مصر أبوابها أمامهم، إثر صدور أحكام غيابية عليهم تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة، باعتبارهم ارتكبوا جرائم.

وهذه الأحوال أدت إلى توزع قطاع من تنظيم الجهاد المصري على دول عديدة انتفاعا من التعاون مع أجهزة استخبارات تارة، ووجود عناصر قادرة على تزوير الأوراق الثبوتية كافة، وتوافر جهات قادرة على التمويل دوما.

وساهمت الطفرة الهائلة في وسائط الاتصالات في ربط هؤلاء جميعا بمراكز قيادة في الخارج، وعناصر قيادية داخل مصر نفسها، في حين ساهم التقدم الملموس الذي شهدته الأعمال المصرفية في إتاحة فرص كبيرة لتحويل الأموال وغسيلها، من أجل دعم عمليات إرهابية أو دفع مقابل لمتعاونين وأعضاء في هذه التنظيمات، أو الإنفاق على أسرهم سواء في الداخل أو في الخارج. كما وفرت شبكة "الإنترنت" وسيلة إعلامية رخيصة وسهلة أمام هذه التنظيمات لتصدر صحفها ومجلاتها وبياناتها المتتالية.

ولاستعمالها ما جادت به الحداثة في أعلى صورها، تمددت التنظيمات المتطرفة والإرهابية بوجه عام لتصبح جزءا من صور العولمة، واستكملت هذا "التعولم" بمنازلة أمريكا في 11 سبتمبر في معركة، إن لم تكن متكافئة على الإطلاق، فإنها تظهر المستوى الذي وصلت إليه الجماعات الراديكالية الإسلامية ذات البعد الدولي في التنظيم والتخطيط والتنفيذ من جهة، والرغبة الواضحة في طرح نفسها بقوة على الخريطة السياسية الدولية من خلال "أجندة" موجهة أساسا ضد واشنطن ومعها تل أبيب، من جهة ثانية.

وحتى عام 1997 لم يكن تنظيم الجهاد المصري قد تعولم سياسيا بالمعنى الدقيق لهذه المسألة، فهي كانت مهمومة بتحقيق مقصدها في إزاحة الحكومة، ولم يغب هذا المأرب عن أذهان قادته، سواء كانوا في كهوف أفغانستان أو في جبال اليمن وأحياء الخرطوم الخلفية، أو في الشقق الفاخرة في أوروبا والولايات المتحدة ذاتها. لكن اشتراك أحد قيادات التنظيم وهو أيمن الظواهري فيما يسمى بـ" الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين"، جعل هذا المقصد يقبل بجانبه مقصدا آخر وهو "قتال العدو البعيد" أي أمريكا وإسرائيل وروسيا على وجه الخصوص، وذلك مع فشل العناصر التي أرسلها تنظيم الجهاد في النيل من تماسك النظام المصري بالتوازي مع فشل كافة العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر محلية في دفع هذا النظام إلى الانهيار أو التسليم، كما كان قادة هذه الجماعات يتوهمون.

وتحت راية الجبهة، المذكور سلفا، امتزجت أهداف الراديكاليين الإسلاميين المصريين من تنظيم الجهاد، أو تناغمت، مع أهداف أبعد كانت تدور في رأس قيادات راديكالية من دول عربية وإسلامية أخرى، جعلت من الولايات المتحدة "العدو الأول"، لإجبارها على سحب جيشها وعتادها من منطقة الخليج العربي، وإخراجها من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو معاقبتها على الوقوف خلف إسرائيل في جميع الأحوال. ولم يكن تحول من هذا النوع صعبا على الإطلاق، نظرا لأن "الأفغان العرب" عموما، ليسوا سوى نتاجا لصراعات عالمية، أيديولوجية واستراتيجية، أكسبتهم خبرة عميقة نسبيا في التعامل مع قضايا تتعدى حدود أقطارهم، وغذت لديهم ميلا، تنامى باستمرار، إلى إيجاد "أممية إسلامية".

وعبرت أدبيات الراديكاليين الإسلاميين وتصريحات قادتهم، اعتبارا من النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، بوضوح وجلاء عن هذا التوجه الجديد، ثم جاءت تحركاتهم لتؤكد هذا، إذ إنها اخترقت حدود الدول القومية وساحت في عالم جغرافي تخيلي ينتهي عند نقاط التماس الملتهبة في العالم الإسلامي، ويعيد إنتاج التصورات الأكثر شمولية التي تحدثت عن دولة إسلامية تمتد من غانا إلى فرغانة، لكن هذه المرة، ليس بطريقة دعوية كما اعتادت تيارات إسلامية عديدة طيلة القرن الأخير، بل بشكل حركي عنيف، لا يقف عند حدود الأمنيات، ولا يعترف بالتغلغل البطيء السلمي المدروس الذي انتهت إليه حركات إسلامية أممية مسيسة مثل الإخوان المسلمين، أو غير مسيسة مثل جماعة "التبليغ والدعوة".
ومع ذلك فيصعب التسليم تماما بأن الطابع الأممي لتنظيم الجهاد صنيع السنوات الخمس الأخيرة فقط، فهو يشكل جزءا من خطاب هذه الجماعات منذ زمن، تمحور حول ثلاث قضايا رئيسية، هي "الخلافة" و"الجهاد" و"العلاقة مع الغرب".

لكن على المستوى العملي قاد ترتيب الأولويات لدى هذه الحركات إلى جعل تغيير الوضع الداخلي قسرا هو القاعدة الأساسية للانطلاق إلى بناء أنماط عدة من التعاون مع الحركات الإسلامية في بلدان عربية وإسلامية أخرى لإسقاط الأنظمة "العلمانية" الحاكمة، ومد يد العون، المادي والمعنوي، إلى الأقليات المسلمة في مختلف البلدان. ثم أخيرا النظر إلى العالم "غير المتأسلم" على أنه "دار حرب"، يستوجب إحياء "الفريضة الغائبة" في مواجهته، وهي الجهاد.

ومعنى هذه أن النظرة "عابرة القوميات" في خطاب تنظيم الجهاد المصري وقفت طويلا عند حدود التصور الأيديولوجي العام، حتى جاء بروز ظاهرة "الأفغان العرب" الذين أوصدت في وجوههم أبواب الرجوع إلى بلادهم بعد انتهاء مهمتهم في أفغانستان بخروج القوات السوفيتية مهزومة ليضعها على محك التدويل. ثم جاء حدث 11 سبتمبر ليظهر أن بعض عناصر هذا التنظيم تشكل جزءا من حركة عريضة تستخدم أهم ما ارتقته العولمة في مجالات الاقتصاد والاتصال والمعلومات، وترفض في المقابل ما تطرحه العولمة في مجال الثقافة، من خلال تمسكها الصارم بخصوصية وهوية "إسلامية" تضع الآخر الأمريكي في موضع العدو الثقافي والعسكري والسياسي.

وأخيرا أعطى الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم الاضطرابات التي جرت في بعض البلدان العربية في السنوات الأربع الأخيرة فرصة سانحة للقاعدة والجهاد كي يجتمعا ليشكلا الطور الأخير المتعولم وهو "داعش" التي تضم مقاتلين ينتمون إلى عدد أكبر من الجنسيات، وتستغل عطايا العولمة في الاتصال إلى أعلى درجة، وتنسق أكثر مع أجهزة مخابرات أجنبية، وترفع أعلى راية التهديد للعالم بأسره.