الأحد 7 فبراير 2016 / 10:50

جنيف 3.. تأجيل أم تعطيل؟

د. نقولا زيدان - المستقبل اللبنانية

ما كاد يطأ الوفد الأسدي في 25 كانون الثاني (يناير) المنصرم أرض جنيف للمشاركة في جنيف3 والذي كان قد سارع المبعوث الدولي دي ميستورا إلى إرجائه بضعة أيام أي حتى الـ29 منه، حتى بدأ بشار الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتحدة بإطلاق تصريحاته الاستفزازية الرعناء والتي كان أشدها سوءاً تصريحه أمام قاعة الأمم المتحدة هناك بالقول أن الوفد الأسدي لم يأت إلى جنيف3 للمفاوضات ولا للمباحثات ولا حتى للحوار الوطني الذي بالإمكان الاستفادة منه ليرتقي إلى مستوى المفاوضات، بل للتحدث إلى الإعلام العربي والأوروبي والدولي فحسب. وبالطبع كان الجعفري على عادته التي سئمت منها أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن يعمد إلى تسخيف وتحقير وفد المعارضة السورية والاستهزاء به، ذلك أن الجعفري الذي كان بمثابة الممهد لوليد المعلم في حال ارتأى حاكم دمشق أن ثمة حاجة ملحة لحضوره المؤتمر، ذلك أن نوايا النظام الأسدي كانت قد بدأت تتكشف قبل افتتاح المؤتمر بأيام أن بشار الأسد ليس في صدد الوصول إلى تسوية سياسية أو حل سياسي للأزمة السورية. فما زال سعير الحرب وما زال مشهد الدم المراق بلا هوادة والمدن التي تكتسحها القاذفات الحربية الروسية والبراميل المتفجرة، يعشش في عقله ومخيلته ويسكن روحه العدوانية التي قلما شاهد تاريخ البشرية الحديث والمعاصر مثيلاً لها، لا في لون نول في كمبوديا وفي نظيره عيدي أمين دادا في أوغندا إلى آخر الحكام الدمويين المستبدين.

على امتداد أيام متواصلة في «الرياض» كانت المعارضة السورية تنظم صفوفها ووفدها لمواجهة جماعة النظام. وكانت قد وجهت العديد من الرسائل الخطية والاتصالات مع دي ميستورا علّها بإمكانها انتزاع ولو مبادرة واحدة مقبولة من النظام الأسدي وحلفائه بالإمكان التأسيس عليها لترتدي المفاوضات في جنيف ولو الحد الأدنى من الصدقية المعول عليها لإقناع الشعب السوري أن ثمة أملاً ما في الأفق لوقف النزيف المتواصل على الأرض السورية. وفي مكان آخر، كان وزير خارجية روسيا يبذل مساعيه لبعثرة وفد المعارضة وتمزيقه إلى أشلاء كي تنطق في جنيف3 وفود معارضة متعددة. فبين الذين اختارهم «لافروف» من هم من معارضة الداخل بموافقة أسدية كاملة، ومنهم من هم أصدقاء روسيا الخلّص. فلا ننسى أن بينهم من استضافتهم موسكو في لقاءات حوارية تحت عنوان كبير ملتبس هو «لقاءات المعارضة السورية» الذين لم ينجوا في صالونات الفنادق هناك من التجريح والإهانات الصفيقة على لسان فيصل المقداد.

في ظل هذا الجو القاتم والفيتوات (جمع فيتو) التي أطلقتها أطراف دولية وإقليمية متعددة لكل منها حساباته الخاصة ومصالح أنظمتها انعقد المؤتمر. فالنظام الأسدي ومعه حلفاؤه الروس والإيرانيون ظلوا حتى اللحظة الأخيرة قبيل انعقاد المؤتمر يرفضون حضور ممثلي عدة فصائل سورية مسلحة بداعي أنهم إرهابيون. ففصيل أحرار الشام وجيش الإسلام قد تطلب قبول حضورهم خلافاً للإرادة الروسية والإيرانية ضغوطات متواصلة من «دي ميستورا» ذلك أنه قد مرّت ساعات قبيل انعقاد المؤتمر، بدا فيها المؤتمر نفسه على كف عفريت. وفي مكان آخر، كانت أنقرة تضغط باتجاه مُعاكس إذ كانت ترفض حضور ممثل واحد عن الأكراد السوريين وعلى رأسهم الاتحاد الديموقراطي الكردي ومبرّر ذلك برأي الأتراك أن هؤلاء هم أيضاً إرهابيون. إلا أن بين السوريين «المعارضين الواقعيين» من أمثال هيثم المناع من ظل يرفض حضور المؤتمر العتيد في حال عدم تمثيل الطيف الكردي.

ما هو أسوأ من كل هذا هو أنه على الإيقاع المدمر لغارات الطيران الحربي الروسي على مدن الشمال من إدلب إلى حلب ومدن الجنوب في الشيخ مسكين (درعا) ووابل البراميل المتفجرة، ما عدا الهجمات المتكررة على المدن الموالية للمعارضة في ريف دمشق، وفي ظل مأساة التجويع حتى الموت في «مضايا» المحاصرة من قِبَل عسكر النظام وميليشيا «حزب الله« حيث يستمر بحقد ولا أبشع منع وصول المساعدات الإنسانية لأهاليها المساكين، انعقد المؤتمر في 29 كانون الثاني (يناير) ليجري تعطيله في 3 شباط (فبراير)، أي أن المؤتمر لم يتمكن من متابعة أعماله سوى لستة أيام فحسب. فالغارات الروسية المتواصلة على بلدات ريف حلب وريف اللاذقية، تدعمها قوات النظام الأسدي وميليشيا «حزب الله« قد وصلت إلى حدود من الوحشية والتدمير وسقوط المئات من المدنيين ضحايا ومصابين هي بمثابة البرهان القاطع والدليل الملموس أن بشار الأسد وحلفاءه وعلى رأسهم الروس أنفسهم ليسوا بتاتاً في صدد الدخول في أي محادثات رصينة قد تفسح في المجال أمام حل سياسي للأزمة السورية. فالحسم العسكري والتصورات الموهومة في إمكانية سحق المعارضة ما زال يسكن العقل الدموي المريض لحاكم دمشق. وكذلك بالإمكان الوصول إلى استنتاجات متشائمة إلى حدودها القصوى بالنسبة للتصريحات الجانبية والتلميحات المراوغة من قِبَل موسكو في ما يتعلق بالضغط على الأسد لإكراهه على التنحي.

تتحمّل السياسة الأميركية المتخاذلة والتي تحوّل في ظلها وزير خارجيتها «جون كيري» إلى أشبه ما يكون بساعي بريد بين مطالب المعارضة وجهود الأسرة الدولية من جهة وإملاءات الروس والإيرانيين وتطلّب بشار الأسد وفريقه من جهة أخرى، مسؤولية كبرى حيال توقف أعمال مؤتمر جنيف3، وأن يصبح جُلّ ما تسعى المعارضة لحمل التحالف العريض على القبول به، هو احترام الجانب الإنساني في الأزمة والالتزام الجدي به عوضاً عن التلاعب والمماثلة هو القيام بمبادرة النوايا الحسنة وهي لعمري إحدى أهم قواعد المفاوضات، فإن ذلك يدل وبالبرهان القاطع أن النظام الأسدي لم يتعلم شيئاً من دروس الماضي ولا هو في صدد أي إصلاحات جدية تمس النظام الرئاسي الأسدي الكلياني. فمن يريد للحرب السورية أن تتوقف لا يطلق 300 غارة جوية متواصلة فوق حلب وريفها في غضون أربعة أيام، ومن يريد استئصال داعش لا يطلق وابل قنابله الانشطارية وبراميله المتفجرة جرى تعداد 92% منها فوق رؤوس المعارضة في حين لم تنل داعش سوى 8% من إجمالي الطلعات. فلو كان النظام الأسدي ومعه «حزب الله« والحرس الثوري الإيراني جدّيين حول مفاوضات جنيف3 لعمدوا إلى إطلاق سراح الأسرى السياسيين على الأقل أي لبناء الثقة بل الثقة المتبادلة.

إن أي عاقل ومدرك وحصيف من الشعوب العربية يعلم بحق أن النظام الأسدي وحلفاءه كانوا على الدوام يتلاعبون سواء بالمبادرات العربية والجهود الدولية، فهم ساعون بكل ما يملكون من أدوات الحرب والإمكانات المالية التي تم الإفراج عنها تباعاً بالنسبة لطهران والتي بلغت حتى الساعة 100 مليار دولار، للمضي في الحرب.

إنها لعودة مريرة إلى المربع الأول: مشروع إيراني توسعي يرمي لبسط نفوذه على المنطقة العربية يواجهه مشروع عربي قومي يقاتل دفاعاً عن مصالحه القومية وهويته وحقوقه بعيداً عن أي هيمنة أو استلاب أو استعباد.