الأحد 7 فبراير 2016 / 18:21

هذا العماءُ خطأٌ في الإجراءات

العماءُ قد يكون اختياريًّا طوعيًّا فيعمى مُبصرٌ وعيناه مفتوحتان، مثلما قد يكون الإبصارُ خيارًا طوعيًّا لمكفوف أعمى، فيرى أدق التفاصيل بعينيه المغمضتين.

"النورُ يظهرُ عندما نريدُ أن نراه، فإن أردنا العمى، احتجبتْ عنا الأضواءُ، ولو كنّا نسكنُ قرصَ الشمسَ"؟ عبارةٌ قرأتُها في رواية أو كتاب قديم ولم أعد أذكر مصدرها، على أنني أحببتُها أيًّا كان قائلُها لأنني أؤمنُ بها أشدَّ الإيمان. فمثلما أؤمن أن النجاحَ قرارٌ، والإخفاقَ قرارٌ، والصِّحةَ والمرضَ قرارٌ، وحتى الشيخوخةَ والهِرَمَ، أو الشبابَ الدائمَ، قرارٌ، فأنا أؤمن كذلك أن البصرَ والعمى قرارٌ. لينين الرملي، في مسرحية "وجهة نظر"، وضع على لسان محمد صبحي، فارسِ المسرح النبيل، جملةً طفولية بديعة، وشديدة العمق والأثر. حين قال "عَرَفة الشَّوّاف"، الكفيفُ بالبصر، والمبصر بالبصيرة، لفرط حدسِه وذكائه: "كنت وأنا صغير لما اكتشفت إني أعمى، يتهيألي أنهم جابوا شمع سايح وطفوه في عيوني، وكنت أواسي نفسي بالأمل إن ده إجراء غلط مؤقت وبكره التحقيق يثبت براءتي، ويفكوا الشمع عني وتتزال الغشاوة من عيونهم ومن عيوني. لكن كنت كل ما أكبر أحس بثقل الشمع أكتر.” تعبير دقيق عن الحِيَل الذهنية التي يقوم بها المخُّ البشريّ من أجل الهروب من وطأة عبء ثقيل أو كارثة مروّعة لا قِبَل له بمواجهتها. حينما تُلمُّ بنا مُلِّمةٌ نقنعُ أنفسَنا بأنها لم تحدث، أو أنها عارضةٌ وقتية، أو أنها نتاجُ خطأ في الإجراءات سرعان ما ينصلح. فإذا ما تأكدنا أن الكارثةَ حقٌّ واقعٌ لا فرار منه، ينقسم الإنسانُ، في ردةّ فعله، إلى أحد نموذجيْن. إما الاستسلامُ والقنوطُ والحَزَن، ثم الفرارُ الموغلُ نحو النفس حدَّ التشرنق والتقوقع والهروب من المجتمع، وربما الانتحار، وإما، في المقابل، يفعل مثلما فعل طه حسين وأبو العلاء المعرّي في الحياة والأدب والفكر والفلسفة، أو كما فعل "عرفة الشوّاف"، فوق خشبة المسرح. يقررُ الأعمى أن يرى. وليس هذا وحسب، بل يقرّرُ أن يرى أفضلَ وأبعدَ وأعمقَ مما يرى المبصرون. هذا النموذجُ القويُّ النبيلُ أدرك ببساطة أن البصرَ ليس عينًا ترى، بل عقلٌ يُجبرُ النورَ أن يدخلَه، فيدخلُه. وفي المقابل ثمة مبصرون يُصرّون أن يتعاموا حتى يصيروا عميانا لا يبصرون.

في رواية "الخيميائي" لباولو كويللو، يقول سنتياجو: "إذا ما حَلُمَ الإنسانُ بحلمٍ، ثم صدّقَ حلمَه جدًّا، تآمرَ الكونُ كلُّه من أجل تحقيقه." وهذا حقّ. وهو ما آمن به كلُّ "طه حسين"، وكلُّ "عرفة الشوّاف"، وكلُّ كفيف بصر مثقف أصرّ أن يكون مبصرًا رغم الظلام. وكل واع مفكر رفضَ الظلامَ المتكاثفَ من حوله، حتى أجبر الظلامَ على أن يفرَّ حاسرًا كسيفًا مُرتعبًا، ثم هو أمرَ النورَ أنْ يأتي، فأتى النورُ صاغرًا خانعًا طائعًا. مثل ذاك المثقف، مبصرًا كان أو مكفوفًا، رفض أن يُمنَحَ ما يُمنحُ عادةً لمكفوفي البصر من تعاطف ومؤازرة، مُطالِبًا، بدلا من ذلك، أن ينالَ حقَّه الطبيعيَّ كمواطنٍ مصريّ يؤدي دورَ المواطَنة على أجمل ما يكون. يطالبُ بها حقوقًا، لا مِنحًا وعطايا.

ثمة صحفي مكفوف البصر اسمه "علي الفاتح" كتب في مجلة "شموع مصرية"، التي يترأس تحريرها: "لا نريدُ حقوقًا من صناديق النذور والزكاة، فنحن لسنا متسولين، ولا أحدَ يمنُّ علينا بحقٍّ أوجبه عيشُنا في هذا الوطن. نصرخُ بالحقوق، لأن حرمانَنا منها يعني بالضبط حرمانَنا من أداء واجبنا تجاه هذا الوطن." ثم يرفضُ، في افتتاحيته نفسها، مقولاتٍ سخيفةً اعتاد الناسُ على قولها، من قبيل: "إخواننا المكفوفون، إخواننا المعوقون، الخ" مثلما نرفض نحن جماعة المثقفين تلك العبارات التمييزية العنصرية: "إخواننا الأقباط، شركاء الوطن." ذاك أن الكلَّ أبناءُ هذا الوطن وأبناء الإنسانية، فلا تجوز الإشارة إلى جماعة منهم على أنهم أخوةٌ أو أشقاءُ.

كونوا مُبصرين وإن كفّت أبصارُكم. ولا تختاروا العماء وعيونكم مبصرة.
***

العمياء


التي أبصرتْ فجأةً
بعد جراحةٍ مرتبكةٍ تمَّتْ على عجلٍ
يناسبُ ارتكابَ الشِّعرِ
في صورتِهِ المحرَّمةْ.

عهدٌ طويلٌ مع الشخوصِ إلى الأعلى
بأحداقٍ فارغة،
سمعتْ خلالها عشراتِ الكُتبِ
لكنَّها
حين راقصتْ "لاما"
عندَ سَفْحِ الهضبةِ،
علَّمها أن صعودَ الرُّوحِ
مرهونٌ بانفصالِها الشَّبكيِّ.

أُميَّةٌ إذن
لأن الألمَ المرسومَ على ملامحِها
لحظةَ الإعلاءِ الجسديّ
أفسدَ النصَّ
فانثنى القلمُ
قبل اكتمالِ الحكاية.

لا سبيلَ للرجوعِ الآن
المعرفةُ في اتِّجاهِها
والجهلُ
فردوسٌ غائب.

لذا
تظلُّ الفكرةُ تُطِلُّ برأسِها
محضَ ذاكرةٍ جافةٍ
كلما راودَها البصرُ.
تسكبُ ظلَّينِ واقفيْن
في عتمةِ ردهةٍ مبهورةِ الأنفاسِ
صامتةْ
كانت تستعدُّ للشاي
عند انتهاءِ المشهدْ .

ظلاَّنِ
أحدُهما يمارسُ مهنةَ التنويرِ
والآخرُ
يجتهدُ أن يقرأَ
لكن
تَحُولُ دهشتةُ العميقةُ
دون اكتمالِ الدرسِ.

القراءةُ لا تحتاجُ إلى عينين
هذا ما تأكَّد لها
حين أبصرتْ فجأةً
ولم تجدْ كتابًا .