الإثنين 8 فبراير 2016 / 21:49

القمة العالمية للحكومات: قفزة إماراتية عملاقة نحو المستقبل

لاشك أن المستقبل، بما يحمله من طموحات وقلق على السواء، هو أكبر المحرضين على الابتكار، إلا أنه ذلك الغامض الذي صد عنه العقل العربي، ومنه بلا شك العقل الخليجي، وترك الأسئلة الكبرى المتعلقة بالمصائر والمآلات، ليقتات على متروكات الحداثة الغربية تارة، وتارة أخرى ينزلق ليصبح فريسة للأضابير الماضوية غير التنويرية منها، لينعزل أكثر وأكثر، ويقع حبيس نفسه، فيضخم الحقائق الجاهزة التي تركها له الأسلاف أو خلفتها بقايا النهضة الغربية سواء من الاستعمار أو الاستشراق، فتغيب عنه الاسئلة الحقيقية، أسئلة المستقبل والحاضر والماضي في الوقت نفسه، حتى أصبح ذو البصيرة من العرب مقتنعا بأن لا وجود لما يدعى بالعقل العربي.

وبما أن الإمارات، وهي ليست بمعزل عما يحدث في العالم العربي، قد أدركت، وهي تتأمل الانهيارات الماحقة في بعض الأنظمة العربية، وتشاهد الإرهاب الذي يتخذ الدين بعبعا والطائفية المستشرية تحدّق في شعوب المنطقة، بل وتفترسها وتفجر مساجدها وتقتل بعضها بعضا، أدركت حجم الكارثة، وكان لها موقف عقلاني ومستنير، مرن وحازم، في الوقت نفسه. ذلك أن بعض الشعوب العربية حلمت، ومن حقها أن تحلم بالتغيير، وتطلعت ومن حقها أن تتطلع إلى مستقبل أجمل، هذا المستقبل الذي لم يعد له وجود في منظومة تلك الحكومات، فوقفت متفرجة على شعوبها، ساخرة من قدراتها، تشاهد لكنها لا ترى، وترى لكنها لا تتبصّر، وإن تبصّرت فإنها لم تتوجّس خيفة من أن حلم الشعوب قد يكون كابوسا، وقد كان، فاختطفت تلك الشعوب إلى خيارات لا تعبر عن وجدان الأمة الحقيقي النابض بالرغبة في التجدد، فانهارت مع حكوماتها ووقعت ضحية الاحتراب والفوضى.

ثمة خلل ما يتربّص إذن ولا أحد يشعر به، إذ أن العقل العربي ما زال متردداً لا يمتلك الجرأة في طرح الاستحقاقات الملحة، لأنه يدرك بأن المعطيات المتاحة أمامه ليست مرتكزاً للتفكير ولا منطلقا للتحليل وليس في مقدورها أن تصف على نحو دقيق وواقعي آفاق الحداثة المرتقبة وبنى التنمية المستدامة المتوقعة، ذلك أن هذه الآفاق والبنى في حد ذاتها تستبيح العقل وتضع مكانه ثقافة الجهل، وتستعين بشتى الأمثلة الظلامية لترسخ نفسها سواء أكانت من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فتجمّدت شرايين الإبداع والابتكار، مما جعل الحاضر، ليس سوى مجموعة من الأشباح، تغتال وجود الإنسان العربي المعاصر، وتستحثه للبناء لا لدنياه بل لآخرته فقط، فعاشت الشعوب العربية على هامش الحياة خانعة أمام سلطة الماضي فزاحم الخلف السلف وحلوا محلهم، وساد المفهوم الذي يرى بأن الخير كله في السلف والشر كله في الخلف، وظلت حكومات هذه الشعوب غير متبصرة في المصائر وغير متطلعة إلا إلى نزر بخس من الخدمات دون المستوى المطلوب والجودة المبتغاة.

لقد أدركت الإمارات، مجمل هذه التحديات التي تعصف بالعالم العربي، وهذا الإدراك لم يكن مكتفيا بالتنظير فحسب، بل تبعته البادرات تلو البادرات التي تمكّن الحكومة شكلاً ومضموناً من أن تذهب إلى المستقبل ولا تنتظره، بل تجعلها قادرة في ذهابها هذا أن تحقق وجوداً ملموسا في عالم لا يعترف إلا بأولئك الذين يمتلكون فكراً جديداً قادراً على استيعاب التغييرات الهائلة الواقعة في العالم الذي نعيشه بطموح كبير وتطلع أكبر.

ورغم كافة الإنجازات التي حققتها حكومة الإمارات في سنواتها العشر المنصرمة، إلا أن القمة العالمية للحكومات، كانت محفزة أكثر من أي وقت مضى للحكومة الإماراتية بأن تفكر في نفسها، وتحلل بنيتها وتعيد النظر في شكلها، في زمن يتطلب مرونة تمكنها من أن تعمل على نحو أسرع، ولم تكن الحكومة الإماراتية مرة من المرات بعيدة عن شبابيتها، بل الشبابية هنا، وإن كانت سعياً إلى ضم دماء جديدة أكثر شبابا، إلا أن الشبابية بالمعنى الأصح، وكما تجلى في التوجيهات الأخيرة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بالتشاور مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة هي التفكير الجديد في شكل الحكومة وبنيتها، وأن تعيد الحكومة قراءة نفسها بنفسها، أن تتبصر ذاتها بذاتها، وتنفض عنها غبار الأشكال المستعارة مما هو جاهز، ذلك أن العالم الجديد يحتاج هو الآخر إلى شكل حكومي جديد يعبر عن بيئته المخصوصة، ويستعير وجوده من تحدياته الخاصة، ويصور نفسه المميزة بما يعكس على نحو دقيق طبيعة شعب الإمارات في تطلعه إلى المستقبل.

لقد كان أهم تجليات القمة العالمية للحكومات إذن إتاحة الفرصة على نحو مثالي للحكومة الإماراتية أن تنظر إلى ذاتها وتقارن بينها وبين الحكومات العالمية المتطورة، وإن أوجدت اليوم شكلها الذي تبحث عنه، فإن الشكل بلا أدنى شك لا قيمة له إن خلا من المضمون، ولهذا فإن الإنسان هو الأساس المكين الذي انبنت عليه الحكومة الإماراتية في شكلها الجديد، فانطلقت لتتمحور حول التخطيط لتطوير الموارد البشرية والقوى العاملة لإحداث النقلة النوعية للكوادر الوطنية المستقبلية في القطاعات كافة وخاصة التعليم، وبدل من أن تكون "الصحة" مستقبلة فحسب فلقد صارت لها دور في المبادرة ووقاية المجتمع وحمايته من الأمراض وهذا الأمر نفسه أيضا قد طال "العمل" الذي لم تعد الوزارة متلقية بصورة سلبية ومكتفية بتقديم الخدمات الشكلية، بل صار لها دور منتج وخلاق بعد إحلال مفهوم القوى العاملة الذي يعبر بلا شك عن اقتصاد المعرفة التي انبنت عليها استراتيجية الدولة، ثم صارت المعرفة قيمة مجتمعية والثقافة أضحت هي الأخرى قيمة معرفية، دون أن تتنكر للشباب بوصفهم طاقة خلاقة للمستقبل والغد الجميل، وقد راعى الشكل الجديد للحكومة الحفاظ على هوية المجتمع ولغته وتعزيز مشاعر التسامح فيه ودعم طاقاته والعمل على تطوير الكوادر الوطنية، كما يتجلى الأمر من خلال وزارة "تنمية المجتمع" التي لم تعد وزارة رعوية خدمية بالمعنى التقليدي للكلمة، بل أصبحت تنظر إلى المعنى الشامل والعوامل المتعددة لنهضة المجتمع.

كثيرة هي التغيرات الهيكلية التي أدخلت على حكومة الإمارات، ولا ريب أنها ستكون موضع تأمل وتحليل أوسع وأعمق، إلا أن ما يمكن قوله في هذه العجالة، إن حكومة الإمارات اختارت أن تعلن تحولاتها في القمة العالمية، أمام نظر العالم وسمعه، لتقول وبكل ثقة إنها تمضي بخطى مدروسة وثابتة نحو المستقبل، تحدد خطواتها النظرة المتبصرة إلى البعيد، حتى لا يعود المستقبل ذلك الغامض المخيف، وإنما يتحول إلى ذلك المشرق المنتظر.