الثلاثاء 9 فبراير 2016 / 19:15

النظام العالمي

يستعرض هنري كيسنجر في كتابه الأخير "النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ"، توازنات القوى بين الدول على مدار قرون عدة سابقة، تواريخ المعاهدات والحروب، مساحة الدولة، كتلتها السكانية، ثقافتها، وضعها الجغرافي، عزلتها أو انفتاحها على الدول المجاورة. هنري كيسنجر ليس مفكراً أو صحفياً أو مؤرخاً إلا في ضوء النقطة الهامة لتاريخه المهني، وهي أنه صانع سياسات أمريكية في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وما زال، وهي سياسات ساعدتْ بشكل كبير على تشتيت صراع الدول العربية مع دولة إسرائيل.

في الفصل السابع من الكتاب، وتحت عنوان مستفز، وهو"خدمة للبشرية كلها.. الولايات المتحدة وتصورها للنظام". يقول في فقرة سرد تاريخي: بات توسع أمريكا يُنظر إليه بوصفه تفعيلاً لنوع من أنواع قانون الطبيعة. وحين مارستْ الولايات المتحدة ما كان يُعْرف بأنه نزوع إمبريالي، بادر الأمريكيون إلى إعطاء الأمر اسماً آخر، وهو إنجاز قَدَرنا الصريح المتمثل بتغطية القارة التي خصصتها السماء لتطور ملاييننا المتضاعفة سنوياً بحرية.

كان من الشائع عن السياسة الأمريكية أنها براجماتية، ذرائعية، لكن خدمة البشرية كلها، هو دور أخلاقي كوني، تُلزم أمريكا نفسها به، لا حباً في المصالح الإمبريالية، ولكن فقط من أجل حرية الآخرين، من أجل الديموقراطية. وعلى الرغم من أن هنري كيسنجر يستلهم خدمة أمريكا للبشرية كلها، من كلمات أحد المؤسسين الأوائل للعالم الجديد، وهو توماس جفرسون، التي يوردها بنصها في متن الكتاب، إلا أن هنري بهذا الاستلهام، كأنه يُجدد صلاحية الرسالة التبشيرية القديمة، وكأنها رسالة صالحة لكل زمان ومكان، صالحة للعصر الحديث أيضاً، أي لنا أن نضع خدمة أمريكا للبشرية في ضوء الحروب الأهلية التي بُليت بها المنطقة العربية أثناء تحقيق أمريكا لقَدَرها الديموقراطي الإنساني.

بعد استعراض هنري كيسنجر لتاريخ الثورة الدينية الإيرانية، وفيما يُشبه الدهشة من فاشيتها، وكأن الخميني لم يكن مُقيماً مُنعماً في الغرب لحين لحظة مُناسبة، وكأن المفاجأة صعقتْ أمريكا، يقول هنري: لم تكن العقيدة التي تجذرت في إيران، في ظل الخميني، شبيهة بأي شيء كان قد سبق له أن مورس في الغرب منذ الحروب الدينية. الدولة لا بوصفها كياناً شرعياً بحد ذاته، بل على أنها سلاح مُناسب لنضال ديني أوسع. هل هذا اعتراف ضمني بالخطأ؟ أم اعتراف بأن الخمينية وقفتْ حجر عثرة أمام رسالة التبشير بالديموقراطية الأمريكية؟ وإذا كانا السؤالان موضعاً للشك، فلماذا تكرار الوقوف في وجه قَدَر الحرية الأمريكية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا؟ أإلى هذا الحد ترفض الشعوب راعياً أمريكياً لخدمة البشرية جمعاء؟ يٌكمل هنري كيسنجر رغم طوفان الأسئلة الباطنية، براجماتيته، وينصح بقوله: يتعين على الولايات المتحدة والديموقراطيات الغربية أن تكون منفتحة على رعاية علاقات تعاونية مع إيران. لا بد للولايات المتحدة من أن تبقى منفتحة على أي مصالحة حقيقية، وأن تبذل جهوداً حثيثة لتيسير ذلك. ولا يبذل هنري كيسنجر في كتابه أي مجهود يُذكر في التوفيق بين البراجماتية والأخلاقية، وكأن واحدة للواقع، وأخرى للصالونات النظرية.

أيضاً من ضمن المؤسسين الأوائل الذي يقتبس منهم هنري كيسنجر في كتابه، هو تيودور روزفلت الذي تولى الرئاسة 1901. يقول روزفلت: نحن ننعم بأشياء كثيرة، ومن المشروع أن يُتَوقَّع منا أشياء كثيرة. علينا واجبات نحو آخرين، وواجبات إزاء أنفسنا، لسنا قادرين على التهرب لا من هذه، ولا من تلك. لقد أصبحنا دولة- أمة عظمى، ملزمة جراء حقيقة عظمتها بنسج علاقات مع أمم- دول الأرض الأخرى، ولا بد لنا من أن نتصرف بما يرقى إلى مستوى شعب مضطلع بمثل هذه المسؤوليات. هذه النبرة الأمريكية لم تتغير منذ أكثر من مئة سنة. إحداث النعمة بعالم جديد، بثروة موارد طبيعية لقارة كاملة، بواجب التدخل في دول أخرى، حتى لو لم تعرف تلك الدول أن من مصلحتها الإذعان لعظمة أمريكا، وهي مُجبرة كدولة عظمى تتحرك بقَدَر كبير، على أن تهرع إلى الآخرين. وكما في فيلم أمريكي من إنتاج هوليوود، البطل مُطالب بإنقاذ العالم من ديناصور عملاق أو من كائن فضائي، في وقت محدود، مع فارق أن بطل الفيلم الأمريكي ينجح في مهمته بكتابة تتر النهاية، أي في زمن لا يتعدى ساعتين على الأكثر، بينما بطل الواقع الأمريكي لم ينجح في مهمته منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن.