الجمعة 12 فبراير 2016 / 19:05

"الإهمال"

هناك ما يشبه إجماعاً في فلسطين على اختيار طريقة معاقبة "النخبة" السياسية، "الإهمال"، لا أظن أن ثمة عقوبة للقيادات، أي قيادات أكثر قسوة وتعبيراً عن خيبة الأمل والإحساس بالخذلان أكثر مما يعبر عنه الإهمال الشعبي.

وهذا بالضبط ما جرى للقيادات الفلسطينية التي اجتمعت في العاصمة القطرية للمرة الثانية تحت عنواني "المصالحة" و"إنهاء الانقسام".
لم يعلق أحد أمله على حبالهم المنشورة، واصل الناس حياتهم اليومية بقسوتها المعتادة ولم تفلح التصريحات المحمولة على "البلاغة العائلية"، من نوع "سادت المحادثات أجواء أخوية"، لم تفلح في الحصول على انتباه بقية العائلة من "الإخوة المواطنين".

هذا ما يحدث في غزة منذ وقت طويل وتكرس بشكل جليّ ومؤلم بعد "انتصار" حماس في "العصف المأكول" وتداعيات الانتصار على مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع.

لا ضرورة هنا لإعادة إحصائيات القتلى والجرحى والبيوت المدمرة والمصابة، أو تعثر العملية التعليمية ومعاناة الطلبة تحت سوط مناهج وأفكار حماس، أو تواصل الحصار والسطو على مقدرات وحقوق الناس وإهدار حياتهم، المقصود هنا الناس الذين يعيشون خارج جنة الاخوان المسلمين. لا ضرورة للحديث عن "المعبر" الذي استنفذت كل الذرائع التي أطلقتها "حماس" خلال السنوات التي أعقبت إزاحة الجماعة عن حكم مصر واقتياد مرسي والمرشد وخطباء اعتصام رابعة العدوية إلى القضاء.

لا ضرورة لاستعادة الحديث عن القبضة المتوحشة لأجهزة الأمن وتحكمها في حياة الناس مستعيدة النماذج الأكثر توحشا في تجارب الأنظمة العربية، وهذا يشمل الاعتقال والمحاكمات "السرية" التي غالبا ما تنتهي بتنفيذ اعدامات بشعة، كان آخرها ما حدث منذ أسبوع عندما أعلن عن تنفيذ حكم الاعدام بأحد القادة الميدانيين لـ "حماس"، محمود شتيوي، الذي تسلم لفترة طويلة قيادة "كتيبة الزيتون" ومهمات تدريبية أخرى، واعتقل منذ ما يقرب العام دون الإفصاح عن أسباب اعتقاله.

ولكن عائلة "المغدور" لم تصمت، كما جرت العادة أو كما هو متوقع في مثل هذه الأحداث، وبدأت بملاحقة أسباب الحكم والضالعين باعتقال وتعذيب وإعدام ابنها، ومحاولة تشويه سمعته وسمعة العائلة عبر الحديث عن "سلوكيات" غامضة وحمالة أوجه.

قبل ذلك وأثناء العدوان الاسرائيلي الأخير وبينما الطائرات الاسرائيلية تواصل نسف غزة بيتاً بيتاً، تم إلقاء جثة أخرى لأحد قادة حماس وأحد الناطقين باسمها "أيمن طه" ونجل أحد مؤسسي الحركة في محيط مستشفى الشفاء مثقباً بالرصاص وملاحقاً بتهمة "الفساد والتخابر"، بينما وفي نفس الفترة جرى تنفيذ عمليات قتل/إعدام في الشارع وأمام الجمهور لعدد آخر من الأشخاص تحت تهمة "التخابر مع العدو".

ظاهرة "الإهمال" يمكن تتبعها بوضوح في الضفة الغربية والقدس، أيضاً، التي تشهد تحركات شعبية تتدحرج منذ أكثر من شهرين في مختلف مناطق ومدن الضفة وتخترق "الخط الأخضر" وصولاً إلى بئر السبع والرملة وتل أبيب، وتتنقل في أساليبها وتبتكر، في ظاهرة فردية، وسائلها الخاصة، "انتفاضة" تتحرك ببوصلة خاصة بعيداً عن إطارات الفصائل وأعلامها، التي تظهر عادة بعد انتهاء الحدث، عندما تقفز من مقاعد المتفرجين لتلف أجساد الشهداء براياتها، أو تدعو في اعادة بائسة، أقرب الى نداء استغاثة، الى "يوم غضب" أو "إضراب تجاري" أو إصدار بيان محزن يحيي المنتفضين ويتضامن مع الانتفاضة.

القيادة التي لم تحدد موقفها، بعد، من "الانتفاضة"، تطلق بين وقت وآخر تصريحاً "تضامنياً" محاطاً بشروط وذرائع، أقرب إلى زفرة، قبل أن تواصل الذهاب في إغماءة هادئة ومبتكرة، تبدو مشمولة بشكل خاص بعقوبة "الإهمال" الشعبية، التي تحولت إلى وسيلة معارضة واحتجاج.

فقد ذهب الشارع الفلسطيني ومؤسساته المدنية بعيداً في تجاهله القاسي لنخبه السياسية، عندما ابتكر شبكة من التضامن الأهلي تبدأ من تنظيم حملات شعبية ناجحة وشفافة لإعادة إعمار البيوت التي يهدمها الاحتلال في أكثر من منطقة ومدينة، وانتقلت في تطور ملفت ومثير للإعجاب لمنظمات المجتمع المدني، حيث يمكن هنا إدراج تضامن مؤسسات أعلنت عن فعاليات تضامنية يرصد ريعها كاملاً لمؤسسات مهددة، كما حدث مع مسرح الحكواتي المقدسي المهدد بالإغلاق من قبل سلطات الاحتلال.

تستفيد هذه الحملات بشكل أساسي في تواصلها وانتشارها من شبكات التواصل الاجتماعي، تاركة خلفها مؤسسة الإعلام الرسمي والفصائلي أشبه ببيوت مهجورة يحلل فيها أشخاص "واقعيون" عالماً افتراضياً.

"الإهمال" تبدو الكلمة السحرية التي ابتكرها الفلسطينيون الذين تحاصرهم المفاوضات منذ أكثر من عقدين من الزمن، المفاوضات مع الاحتلال والمفاوضات مع الانقسام.

"الإهمال" كعقاب يتراكم ويتسع لحقبة كاملة من السياسة والسياسيين الذين مثلوا هذه الحقبة.