الأحد 10 أبريل 2016 / 19:41

توب الفرح يا توب

جميعُنا دائنٌ وجميعُنا مدينٌ في اللحظة نفسها. جميعنا خادمٌ ومخدومٌ. فأنا حين أجلسُ إلى طاولة الرسم الهندسي، وأصمم أحد المباني، بوصفي "مهندسةً" بالدراسة، أكون "خادمةً" لمن سيقطنون البناية بعد تشييدها. وظيفتي معرفة احتياجاتهم اليومية وتلبيتها على لوحة التصميم من أجل صالح حياتهم ورفاهيتها

جلس الشاعرُ مُطرقًا يفكّر. كان يبحثُ عن مطلعٍ آسر لأغنية جديدة يكتبها. ولكنْ، هيهات أن يُلبّي شيطانُ الشِّعر نداءنا وقتَ ننادي. حين نلاحقُ الشِّعرَ؛ يراوغُ ويروغ ويزوغ ويتأبّى ويتدلّل ويفرّ، ثم يتبخر ويختفي. وحين ننساه ونعرضُ عنه، يلاحقُنا ويطارد أفكارنا، ويرسل إلينا مراسيلَ إلهام تُلهمنا، حتى نتمكنَ منه ونقنصَه، فتصير القصيدة.

وبينما الشاعرُ مستغرقٌ في غمرة إطراقه وتلاحُق أفكاره، ترفّق به شيطانُ الشعر فأرسل ملهمَه في ثوب أحد السابلة. مرّ تحت شرفة الشاعر بائعٌ جوال راح يهتف: “توم الخزين يا تووووم". فوثب الشاعرُ الغنائي الكبير "مرسي جميل عزيز" من مقعد مكتبه وهتف، كما هتف أرخميدس قبل ثلاثة وعشرين قرنًا: “وجدتُها!!!”

قنصَ الشاعرُ عصفورةَ الشِّعر الحرونَ من مناجاة البائع المتجوّل لبضاعته. عصفورة الشعر العصيّة التي لا تسقط في شِباكنا بيسر، شأنُها شأنَ النفائس العزيزة. وكانت مناجاةُ بائع الثوم على بضاعته: (توم الخزين يا تووووم)، إلهامًا لمفتتح، ولازمة، إحدى أجمل أغنيات المطربة المصرية "أحلام" ذات الصوت الشجي الدافئ، على نغم الموسيقار "محمود الشريف"، وبزغت للوجود أغنية الأفراح الأشهر: “توب الفرح يا توب”. وأصبحت كلُّ عروس تُزفُّ على نغمات تلك الأغنية مدينةً لبائع الثوم الذي تصادف ومرّ من تحت شرفة الشاعر في لحظة الانصهار والكتابة.

أخبرني بتلك القصة الطريفة خالي "محمد أبو بكر"، الرجل ذو المرجعية المحاسبية الصارمة، في معرض حديثه عن فكرة "الدائن والمدين"، لا في البنوك والمؤسسات المالية وحسب، بل بوصفها القاعدة التي يقوم عليها العالم بأسره. وبالقطع أتفقُ مع هذا الطرح، فالجميعُ في حال من الأخد والعطاء طوال الوقت. وحركات الدائن والمدين لا تتوقف فوق الأرض على مدار الثانية. ليس بين البشر وحسب، بل حتى بين البشر والكائنات الأخرى. فقابيل مَدينٌ للغراب بفكرة مواراة الموتى التراب. والعصفورُ دائنٌ للأخوين رايت بفكرة الجناحين والطيران. والخليل ابن أحمد الفراهيدي مَدين لطارقي النُّحاس في استخلاص منظومة العَروض والوزن في الشعر العربي. وجرسُ الكنيسة تدينُ له البشريةُ في ابتكار السلّم الموسيقي.

جميعُنا دائنٌ وجميعُنا مدينٌ في اللحظة نفسها. جميعنا خادمٌ ومخدومٌ. فأنا حين أجلسُ إلى طاولة الرسم الهندسي، وأصمم أحد المباني، بوصفي "مهندسةً" بالدراسة، أكون "خادمةً" لمن سيقطنون البناية بعد تشييدها. وظيفتي معرفة احتياجاتهم اليومية وتلبيتها على لوحة التصميم من أجل صالح حياتهم ورفاهيتها. وبعد أن تقطن البنايةَ مجموعةٌ من البشر، سيكون الطبيبُ فيهم "خادمًا" لي حين أمرض وأرتاد عيادته. والقبطانُ منهم سيكون "خادمًا" لي حين أركب سفينته لأسافر. وهكذا.

وبعد، فإنك حين تذهب إلى المسرح في المساء من أجل بعض المتعة والترفيه، بعد انتهاء عملك كخادم، عليك أن تنتبه أنك تزور الممثلين في ذروة وقت عملهم وخدمتهم. الممثل فوق خشبة المسرح "خادمٌ" للجمهور طوال فترة العرض، مثلما كل واحد من الجمهور سيغدو خادمًا له ولغيره حين يذهب إلى عمله في الصباح.

إنها فكرة الدولة والتكامل الاجتماعي بين الوظائف والأعمال. كلٌّ منّا يكون في لحظة ما إما خادمًا أو مخدومًا. بل سبقت هذه الفكرة مفهومَ الدولة. بدأ الإنسانُ في تطبيقها منذ وطأت قدماه الأرض. خاصةً في المجتمعات النهرية الزراعية. على طول ضفاف النهر، أزرعُ أرضي في الجنوب، وتأتي أنت لتساعدني من الشمال، وحين تصعد المياه لأرضك في الشمال مع حركة المياه، آتي إليك وأساعدك في زراعة أرضك وجني المحصول، وهكذا. أنت خادمٌ عندي في لحظة، وأنا خادمٌ عندك في لحظة أخرى.

في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذا المقال، أقوم بعملي كـ"خادمة" للقارئ، وإلى جواري العظيم محمد عبد الوهاب يقوم بدوره في "خدمة" روحي وهو يشدو: "عندما يأتي المساء". كلُّنا خادمٌ، وكلُّنا مسؤولٌ عن مخدوميه.