الأحد 24 أبريل 2016 / 19:32

أجدلُ السعفَ لأنني أحبُّ

كتبَ على صفحته يقول: "هذا العام أيضا سنذهب كعادتنا معًا ليلة الأحد، نحصدُ عيدان السَّعف وسنابل القمح، لتعلقيها بكفّيكِ فوق باب البيت؛ كعادتك كل عام. عند مساء السبت سأنتظرك، ونذهب معًا. كلُّ عام وأحباؤنا المسيحيون صائمون، يرفعون أياديهم إلى السماء ضارعين بالدعاء لكي يحمي اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ،....اللهم تقبل عبادتكم. أمين".

هذا رفيق دربي، صخرةُ حياتي التي عليها أتكئ كلّما هدّني التعبُ. هذا زوجي وأبو ولديّ مازن وعمر. المهندس المعماري الجميل نبيل شحاته، كتب من القاهرة هذه الكلمات على صفحته قبل أيام، وبرغم أنني لم أره، إلا أنني أكاد أرى العبرات التي تقطر من كلماته تترقرق في عينيه الطيبتين. فأنا هذا العام، لست معه ولا مع أبنائي، أنا لستُ في بيتي، ولا في وطني، بل في مكان آخر.

أنا خارج وطني منذ أربعين يومًا، وبدأت تتواتر المناسباتُ التي تمرُّ عليّ ونحن (لأول مرّة ما منكون سوا)، كما تقول "جارة القمر". قبل شهر، مرّ عيد الأم وأنا بعيدة، فخسرتُ أربع قبلات: من أمي ومن طفليّ وأبيهما، واليوم يمرُّ عيد السعف (الزعف كما نسميّه بالدارجة المصرية)، فخسرتُ أن أجدل شرائح السعف تاجًا وأساور وخواتم ولُعبًا لي ولأسرتي، وخسرت سنبلة قمح خضراء أعلّقها على باب شقتي، أراقبُها وهي تجفُّ يومًا بعد يوم حتى تتحوّل إلى شعلة من الذهب المشعّ يجلبُ الخير على بيتي ويحمي أسرتي من عيون الحاسدين، كما كان يؤمن أجدادي الفراعنة.

قرأت كلماته على صفحته فغام الحزنُ فوق صفحة وجهي. قاتل الله الغربة التي تمزّق نسيج الأهل والأحبة والجيرة والصداقة. لكن السماء تهبنا الأصدقاء حيثما تحطّ رحالنا. لمح صديقي السفير رأفت إسكندر حزني، فأهداني جريدة ضخمة من سعف النخيل الغضّة الخضراء، ثم جلس معي ليلة الأمس لنجدل التيجان والحُليّ، كما اعتدّت أنا أفعل في وطني، ولم يشأ اللهُ أن يقطع عادتي، فمنحتُ أمي تاجها، ورددتُ لنبيل عهدي الذي أبدًا لن ينقطع بإذن الله.

من خارج مصر، أكتبُ إليكم نهار "أحد السعف" وأكاد أرى شوارع مصر تعجّ بباعة سنابل القمح وجريد النخيل في كل مكان. فتلك عادتنا الفرعونية الجميلة قبل آلاف السنين، قبل أن تتأكّد باصطفاف أهالي القدس الشريف، على الجانبين حاملين أغصان الزيتون رمزًا للسلام وعيدان السعف رمزًا للرغد، انتظارًا للحظة وصول السيد المسيح، عليه السلام، رسولا للسلام والمحبة. قبل ألفي عام دخل أورشليم القديمة منتصرًا مكللاً بأوراق الغار.
 لكن غياب الحب عن بني الإنسان جعلت هذا السيد الكريم، الذي جال يصنع خيرًا، يسير بعد أيام قليلة طريقًا وعرة من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة حاملاً صليبَه الخشبيَّ الهائل، قربانًا لخلاص البشر من الشرور والبغضاء.

غيابُ الحبّ أصلُ كلّ شرور العالم. فاجلسْ الآن إلى طاولتك واجدلْ شيئًا من السعف لمن تحبّ. ثم افحصْ قلبَك. قلبك يخفق؟ إذن أنت بخير، ولا خوفٌ عليك. أنت بخير حين تتيقّن أن قلبك مازال قادرًا على الحب، رغم ما تصادفه في حياتك من قبح. الحب نعمة هائلة لا يدرك معناها إلا ذوو القلوب الخافقة. أما ذوو البلادة القلبية فليس لهم إلا الشفقة والدعاء لهم بأن يتعلّموا كيف أحبّنا الله ُولم يطلب منّا سوى أن نحبه ونحب خلقه فنعمّر الكون بالرغد والسلام. أنت تحب، إذن أنت إنسان. أحبّ حبيبتك، أحب أخاك، أحب جارك، أحب عدوك، أحب الحيوان والطير والشجر. أحب الكون، فتكون بهذا مُحبًّا لله.
twitter:@FatimaNaoot