الأربعاء 27 أبريل 2016 / 19:18

التهافت على ابن رشد

إن ابن رشد ينصف غير المسلمين إنصافاً يعز وجوده في زمن كان التشدد الديني ظاهرة عامة لدى الكثير من معتنقي الديانات في ذلك الوقت

يبدو أن قدر ابن رشد هو أن يبقى نجماً من نجوم الحروب الفكرية حتى بعد وفاته بقرون ، فقد دخل ساحة الجدل عن طريق صالة السينما حينما تم تجسيد شخصيته في فيلم "المصير" في سنة 1997 والذي لاقى موجة كبيرة من الانتقادات الدينية والنجاحات الفنية. وليس بطل القصة بجديد على ساحة الجدل وهو الذي شهد إحراق كتبه في الفقه والعقيدة والفلسفة والطب والفلك والعلوم الأخرى على ايدي علماء مُسيسين ضاقوا ذرعاً بوجوده بينهم بعدما لسعتهم نيران الغيرة وأكلتهم آفة ضيق الأفق، ولم يجدوا وسيلة للتخلص منه إلا باستخدام الفتاوى المكتظة بكلمة "كفر" و شقيقتها "زندقة"، ثم أكملوا لعبتهم التحريضية بنفيه إلى مراكش المغرب ليدفن فيها ثم لينقل رفاته إلى مدافن أهله في قرطبة الأسبانية. ولقد كان "دانتي" المسيحي أرحم بابن رشد من أبناء دينه حين وضعه في درجة الرجال العظام.

لا يخفى على الباحثين أنه لولا الفلسفة اليونانية لما كان هناك فلسفة إسلامية تدعو إلى توظيف العقل في الفكر الإسلامي عن طريق إخضاعه للنظر والتحليل العقلاني. هذه الفلسفة قسمت علماء المسلمين بين مؤيد ومعارض ، وكان أعظم من أثنى ركبه أمام الفلسفة الإغريقية من المسلمين أبونصر الفارابي و ابن سينا، وهما كانا هدفاً لحملة الغزالي ضد الفلسفة في كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". أحدث الغزالي بهذا الكتاب ضجة كبيرة لم تنقطع اصداؤها إلى يومنا هذا ، ولقد لخص في عشرين مسألة مآخذه على الفلاسفة في الإلهيات والطبيعيات، ورأى أن ثلاثاً منها توجب عليه تكفير الفلاسفة . وهي مسائل علم الله بالجزئيات وقِدم العالم وحشر الأجساد في الآخرة ، أما المسائل السبع عشرة الأخرى فهي تُبدعهم فقط ! والمثير للدهشة أن الغزالي في مستهل الكتاب نفسه يصرح أن زعماء الفلاسفة بريئون مما قذفوا به من جحد الشرائع وأنهم مؤمنون بالله وأنهم زلوا فقط في تفاصيل بعض الأصول!

من أجل نصرة الشريعة والحكمة انتفض ابن رشد ضد الغزالي فألف كتابه "تهافت التهافت" ، والذي سُبق بكتابات لم ترتضِ طريقة الغزالي التشغيبية في نقاش الفلاسفة والتي نذكر منها ما كتبه الشهرستاني والفخر الرازي الذي كانت آراؤه تتضمن عرضاً لآراء الفلاسفة والمتكلمين معاً، وتتميز بالموضوعية والحياد كما يقول بعض الباحثين.

ما نعرفه أن كتاب ابن رشد هذا وُوجه بتعتيم شديد في الأوساط العربية القديمة وما لقي رواجاً إلا عند اليهود واللاتنيين الذين انكبوا عليه شرحاً وترجمة ودراسة ليستخدموا آراءه الجدلية في الصراعات الفلسفية والدينية بين رجال الفكر والكنيسة في أوائل القرن الثالث عشر م .

من خلال قراءة "تهافت التهافت" يلتمس القاريء أدب الحوار الجم عند ابن رشد والذي ينقص كثيراً من الأقلام الجامحة في هذا الزمن، فمثلاً عندما اعترف الغزالي أن هدفه من الكتاب التشويش على الفلاسفة، علق ابن رشد بقوله :

"هي هفوة من هفوات العالم، فإن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك و تحيير العقول ". وعرفاناً بجميل الغزالي، اختار ابن رشد أحد كتب الغزالي وهو "المستصفى في أصول الفقه" ليختصره لطلابه، واختصار كتاب هو اعتراف ضمني بفضل صاحب الكتاب الأصلي برغم كونه قد خاصمه في رده على "التهافت" ، بل و تراه أحيانا يلوم ابن سينا وينصف خصمه، بل لا يتورع عن تصويب أو تخطئة الغزالي، وإن كان أحياناً يرفع من وتيرة اللهجة والحدة، إلا أنه في عموم الكتاب انتهج الحياد البعيد عن الشخصنة المنفرة.

ومن الملاحظ أن ابن رشد ينصف غير المسلمين إنصافاً يعز وجوده في زمن كان التشدد الديني ظاهرة عامة لدى الكثير من معتنقي الديانات في ذلك الوقت. ولعل ذلك يفسر إعراض متشددي اليوم عن فكره بسبب تسامحه الذي لا يتناسب مع ما ورثوه من أسلافهم، فعندما ادعى الغزالي في المسألة العشرين أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد ، رد عليه ابن رشد أن هذا القول لم يوجد لواحد من الفلاسفة حيث أن مسألة حشر الأجساد لم تنتشر في الشرائع إلا من ألف سنة على يد أنبياء بني إسرائيل، أي بعد انقراض فلاسفة اليونان، فكيف ينسب لهم قولاً في مسألة لم يعرفوا عنها شيئا أصلاً !؟

من أقواله الجميلة في هذا الكتاب قوله :
"لكنّ كثيراً من هذه الأسباب الجزئية إما لا يوقف عليه أصلاً و إما أن يوقف عليها بعد زمان طويل وتجربة طويلة... وقد ظهر في الحيوان والإنسان نحو من عشرة آلاف حكمة في زمن قدره ألف سنة ، فلا يبعد أن يظهر في آباد السنين الطويلة كثير من الحكمة التي في الأجرام السماوية".

ومعنى كلامه أن العلوم في تطور مطرد، و ما هو صحيح اليوم قد يثبت بطلانه في الغد، فعلومنا ومعارفنا نسبية تحتمل الصواب و الخطأ، وكلما ازداد عدد حقائقنا المطلقة والمعصومة ازداد تطرفنا مع أنفسنا و مع غيرنا. و لعلنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى ما قد مات من أجله ابن رشد...