الأربعاء 27 أبريل 2016 / 19:12

ما هكذا يُحارَب العسكر

تكشّف إردوغان، هنا أيضاً، عن سياسيّ ديماغوجيّ آخر من سياسيّي "العالم الثالث" الذين يستخفّون بكلّ معيار أو التزام سعياً منهم وراء مكسب عابر

قصّة تركيّا مع العسكر طويلة ومعظم فصولها بات معروفاً جيّداً. فالجيش التركيّ، منذ ولادة الجمهوريّة الأتاتوركيّة قبل ما يقارب القرن، هو المؤتمن على الأمّة. ذاك أنّه "حزب" أتاتورك الذي أراده أداة لتوحيد هذه الأمّة وصهرها، خصوصاً أنّه صاحب الانتصار على الفرنسيّين والبريطانيّين الذي تلى هزيمة الحرب العالميّة الأولى وتفتّت السلطنة العثمانيّة.

ومع اعتماد الديموقراطيّة البرلمانيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، تحول الجيش حارساً للحياة السياسيّة، لكنّه تحوّل أيضاً قامعاً لها: هكذا وبذريعة محاربة التطرّف والإرهاب نفّذ ثلاثة انقلابات عسكريّة بين 1960 و1980، مستفيداً ممّا تتيحه له ظروف الحرب الباردة وعضويّة البلد في حلف شمال الأطلسيّ (الناتو). هكذا خضعت تركيّا لـ "دولة عميقة" يقودها العسكريّون والأمنيّون تقف دوماً وراء الدولة المدنيّة – الواجهة، ولم يكن بلا دلالة أن يُستخدم تعبير "الدولة العميقة" للمرّة الأولى كوصف للحكم في ذاك البلد.

على أنّه بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتّحاد السوفييتيّ ومعسكره، تغيّرت المعطيات: فالولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد الأوروبيّ الذي أعلنت تركيّا رغبتها في الانضمام إليه، راحا يمارسان الضغوط على أنقرة بهدف الدمقرطة وكفّ يد الجيش عن العمليّة السياسيّة. أمّا مأساة الأكراد الأتراك ممّن شُنّت عليهم حرب أحرقت قراهم وأدّت إلى تهجيرهم الكثيف باتّجاه اسطنبول وباقي المدن، فكانت الحجّة الدامغة في أيدي الأمريكيّين والأوروبيّين ومنظّمات حقوق الإنسان الغربيّة للقول إنّ شيئاً أساسيّاً في تركيّا ينبغي أن يتغيّر. وكان اعتقال المثقّفين وتكميم الصحافة وحرّيّة التعبير، فضلاً عن عدم الإقرار بالمذبحة الأرمنيّة في مطالع القرن الماضي، أسباباً أخرى لتشديد الضغط نفسه.

وبالفعل كان "حزب العدالة والتنمية" بزعامة رجب طيّب إردوغان الطرف الذي التقط هذه التحوّلات الداخليّة والخارجيّة، وتمكّن، منذ 2002، من أن يصل إلى السلطة ويباشر نزع العسكرة عن الاجتماع والسياسة التركيّين. أمّا ما زاد الالتفاف حول هذا الحزب فأنّه أحد أبرز ضحايا العسكر الذين سبق لهم أن حلّوا أحزاباً إسلاميّة سابقة، كـ "الرفاه" و"الفضيلة"، كما أبعدوا عن رئاسة الحكومة الزعيم الإسلاميّ التاريخيّ نجم الدين إربكان، على رغم وصوله ديموقراطيّاً إلى تلك الرئاسة. لكنّ القوى المدنيّة في تركيّا، وفي عدادها شطر من العلمانيّين، رحّبت أيضاً بهذا التحوّل، مثلها في ذلك مثل القوى الغربيّة، وظهرت في الداخل كما في الخارج، رهانات على إردوغان وحزبه بوصفهما من سيعقد المصالحة التاريخيّة بين الإسلام والديموقراطيّة، ويؤسّس نموذج الحداثة الذي سيقتدي به سائر العالم الإسلاميّ.

في هذه الغضون، وفي 2013 تحديداً، زعم إردوغان أنّ الجيش كان يحيك ضدّه مؤامرة انقلابيّة في 2002 – 2003، وبسببها صدرت أحكام بالسجن على 275 شخصاً في عدادهم بعض القادة العسكريّين والأمنيّين، فضلاً عن صحافيّين وأكاديميّين ومحامين. وقد بدا هذا التطوّر ضامناً أخيراً لانعدام أيّ رهان على أيّ دور سياسيّ للجيش.

لكنْ في الأسبوع الماضي أصدرت محكمة الاستئناف العليا، وهي أعلى المحاكم التركيّة، حكمها بعدم وجود أيّ دليل على تلك المؤامرة المزعومة، ما أدّى إلى إطلاق سراح المساجين الذين اتُّهموا زوراً بالإعداد لها.

لقد تكشّف إردوغان، هنا أيضاً، عن سياسيّ ديماغوجيّ آخر من سياسيّي "العالم الثالث" الذين يستخفّون بكلّ معيار أو التزام سعياً منهم وراء مكسب عابر. وهذا من دون أن تتحسّن العلاقة بالأكراد، ومن دون أن يُعترف بالمسؤوليّة عن مذبحة الأرمن، وفي موازاة تراجع يوميّ عن المكتسبات الديموقراطيّة.