الأحد 15 مايو 2016 / 22:36

الجنة التي تفتح أبوابها الساعة الرابعة!

هل يمكن للباحث اليوم أن يشتغل بجد واجتهاد كي يزيل ما علق بمفهوم "الجهاد" من أوهام لا حصر لها، فالمفهوم صار مليئاً بالأساطير، وهذا ما أضفى عليه هالة تاريخية مقدسة يستبخس فيها الإنسان الحياة، حتى صارت النفس، وهي أغلى ما يملكه الإنسان لا قيمة لها.

وليس ثمة من يستطيع أن يجادل اليوم في أن مفهوم "الجهاد" ينطوي في مظانّه الفقهية والتاريخية على الشوائب التي لا تمت إلى جوهر الدين وسماحته بصلة، بل إنه انزلق من كونه دفاعاً عن الأوطان إلى هلاك لها، لذا غدت تنقية المفهوم ضرباً من الخيال، وارتحالاً في المجهول، وترفاً يصعب الوصول اليه إلا بعد أن يصطدم بأشد أنواع الفتاوى تشدداً، وسرعان ما تنهزم النظرة الإيجابية المنفتحة أمام الكم الهائل من الزيف والتزييف، وهي حمولة تقود إلى الوهم، وهم فقهي متراكم يتعذر معه العودة إلى الينابيع السمحة، حتى صار الجهاد من أعقد المفاهيم الإشكالية في التاريخ الإسلامي.

هل يستطيع العقل هزيمة الأسطورة؟ وهل يستطيع المنطق سحق الخرافة! إنّ ألف سنة من الحقن المتشددة حملت القادة عند مخاطبة الجيوش، كما بدا في كثير من الخطابات، إلى التردد في استعمال مصطلح "الجهاد" لأن طوفان التاريخ الزائف للمصطلح يفوق ما يتضمنه من معان سمحة، فامتلأ المفهوم بمواد أسطورية بعد أن عملت الثقافة المتشددة على أن تزحزح دلالته الإيجابية، فتعذر رد المفهوم إلى معانيه الأولى.

ولعل أهم هذه المحاولات المستنيرة هي ما قام بها الاقتصادي الفذ محمد بن الحسن الشيباني المتوفى عام 189 هـ في كتابه العظيم "الكسب" الذي يعد أول كتاب اقتصادي في المدونة التاريخية العربية. كان الشيباني، صاحب الامام أبي حنيفة النعمان وتلميذه أبي يوسف، وكان فقيها فصيحا بليغا في نظر الشافعي، وإمام أهل الرأي عند الخطيب البغدادي، وقد تولى القضاء في زمن الرشيد. ولعل الشيباني الفقيه الضالع في علم الحضارة والاقتصاد والقانون كان ومازال يرعب دعاة التشدد والتخلف لأنه جمع بين الحسنيين: الفقه بوصفه علما آخروياً، والاقتصاد بوصفه علماً دنيوياً.

تذكرت الشيباني الذي تشتد الحاجة اليوم إليه وتذكرت شجاعته ورؤيته المتبصرة، وأنا أقرأ خبر الداعشي وهو يصرخ بالبشمركية قائلاً: اقتلوني ... عندي موعد الساعة الرابعة في الجنة! لم يكن أحد ليدرك أي أسطورة تلك تجعل هذا الشاب الذي يرتدي، على ما يبدو ساعة ينظر إليها بين الفنية والأخرى ليصل إلى موعده دون تأخير، هل كان يريد أن يلتحق بصلاة الأنبياء إذ يؤم بهم الرسول الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام!

لا أحد يدري من أبرم له الموعد، عقله الفارغ الذي يسهل تضليله وغسله من الجماعات الإرهابية، أم العوالم الأسطورية التي يغص بها مفهوم الجهاد نفسه بعد القراءات الفقهية المتشددة التي نجحت في جعل الوهم حقيقة والحقيقة وهماً؟

لقد أصرّ هذا الداعشي يوم الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، بحسب ما أفادت صحيفة "دايلي ميل" البريطانية، أمس السبت، متوسلاً أن يقتل فوراً حتى تعرج روحه احتفالاً بذكرى الإسراء والمعراج فيدخل الجنة التي تفتح أبوابها الساعة الرابعة في ظنه، ولا أحد يدري ما الذي يجعله يصر على الساعة "الرابعة"، هل لارتباطها بالزوجات الأربع والمخيال الجنسي الذي يتحكم بوعي الإرهابيين ولا وعيهم؟

لقد قدم الشيباني قراءة عظيمة لمفهوم الجهاد من منظور اقتصادي، متوقفاً عند قوله تعالى "وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله" فالآية قد قدمت الكسب على الجهاد حسب ما لاحظ الشيباني، إذ القيمة الاقتصادية تتقدم على القيمة الجهادية، ذلك أن الاقتصاد يصنع الدول وبالاقتصاد تنهض الجيوش، وتستمر التنمية وتزدهر العلوم وتتقدم الشعوب، وليس في القتال، إن وقع في الخرافات والأساطير والحروب المقدسة، إلا هدم وفناء وتخريب وتعطيل لمسيرة التنمية، ولا أحد يدري حتى اليوم، لماذا يغيّب مفهوم "الكسب" من المناهج الدراسية لتحل محله مفاهيم أخرى مليئة بالحمولات التحريضية والتأويلات اللانهائية.

لقد كان عمر بن لخطاب، رضي الله عنه، مثلما يرى الشيباني، يقدم الكسب على الجهاد، ويحب أن يسعى في طلب الرزق ويفضل أن يشد الرحال بحثاً عن الرزق على أن يموت غازياً، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأن أموت بين شعبي رحل أسعى في الأرض أبتغي من فضل الله كفاف وجهي، أحب الي من أن أموت غازيا" وقال أيضا: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي، أبيع وأشتري"، ذلك أن الكسب فريضة، وكما جاء في الحديث الشريف: "طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة فريضة بعد الفريضة".

إن هذا المفهوم الإسلامي الأصيل الذي أسس له الشيباني مقدماً القيمة الاقتصادية على القيمة الجهادية، أشد ما نحتاجه اليوم في العالم العربي، وهو مفهوم أوقع دعاة الهدم وهواة الجهاد الأسطوري في حيرة، فابتكرت المدونات الفقهية للقرون الوسطى حيلا لتعيد القيمة المصطنعة للجهاد العبثي طمعا في خيرات الأمم الأخرى، لكن تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تفضل العبادة والرزق على الجهاد ظلت تحمي مفهوم "الجهاد" من الأساطير والخرافات، ولذلك، لم يكن أمام دعاة الإرهاب في العصر الحديث إلا أن يزيفوا معنى "الكسب" في قراءة جديدة لإعادة إنتاجه وجعله متحصلا في الجهاد، فصار "الجهاد" قيمة اقتصادية، به تتحصل الأرزاق وتكثر النعم، فاختلط مفهوم الكسب، كسب المال والجواري بمفهوم الجهاد الأسطوري، مما أدى إلى اختلاط قيمة البناء بقيمة الهدم وقيمة التنمية بقيمة التدمير وقيمة العيش والتعارف بقيمة الفناء والإرهاب.