الأحد 22 مايو 2016 / 18:58

كيف وأدت الإمارات أخطبوط الطائفية؟

منذ قيام الاتحاد عام ١٩٧١، أولى الشيخ زايد، رحمه الله، اهتمامًا بالغًا بقضية التعليم، لأنه أدرك بحسّه المستنير أن الاستثمار في البشر أولى من الاستثمار في الحجر

كلُّ من زار دولة الإمارات، أو عاش بها، يراودُه سؤالٌ يتكرر: "كيف نجحت هذه الدولةُ المسلمة في القضاء على ملامح العنصرية العَقَدية أو الإثنية أو الطائفية، على كثرة الأجناس والديانات والعقائد والمِلل والطوائف التي تتعايش تحت رايتها في تحابٍّ حقيقي وسلام غير مُصطنع، رغم اختلاف الثقافات الأصلية بين المواطن والوافدين، على كثرتهم، ورغم تباين المستويات التعليمية والطبقية والحضارية؟ هذا السؤال تجيب عنه كلمتان، بسيطتان في لفظهما، عسيرتان في تطبيقهما: التعليم، تطبيق القانون.

منذ قيام الاتحاد عام 1971، أولى الشيخ زايد، رحمه الله، اهتمامًا بالغًا بقضية التعليم، لأنه أدرك بحسّه المستنير أن الاستثمار في البشر أولى من الاستثمار في الحجر، فقال: "الشبابُ هم ثروةُ الأمم الحقيقية". أنفق بسخاء على كافة المشاريع التي تنهض بالعملية التعليمية في مجمل القرى والحواضر الإماراتية، لتنشأ أجيالٌ مثقفة واعية متحضرة تُدرك حكمة الله في التعدد والتنوّع الإثني والعَقَدي والطبقي.

وحتى استكمال البنية التعليمية التحتية بالإمارات، أرسل الطلاب، على نفقة الدولة، لاستكمال دارستهم الثانوية والجامعية للخارج، الأوروبي والعربي، حتى حصولهم على الشهادات العليا. وفي أثناء ذلك كانت الدولة تعمل على استكمال بنيتها التعليمية من مدارس وجامعات في القطاعين الحكومي والخاص، وتكوين الكوادر المؤهلة لحمل مشعل التعليم والتنوير والتثقيف في الدولة الوليدة. ومع نهاية عام 2007، أصبح المخصص المالي لوزارة التربية والتعليم يعادل 30٪ من مجمل موازنة الدولة، وهو نسبة محترمة تشبه، وتفوق أحيانًا، المخصصات التي تنفقها الدول الغربية على هيكلها التعليمي. ولم تقتصر العملية التعليمية على وزارة التعليم فقط، إنما كلفت الدولةُ مؤسساتٍ أخرى للمشاركة في العملية التعليمية مثل مجلس أبو ظبي للتعليم، وهيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي، ومجلسي الفُجيرة والشارقة للتعليم، وغيرها. وبهذا تضافرت جهود الدولة كافة للاشتغال على صقل عقول الأطفال والصبية والشباب الإماراتي، فنشأت أجيالٌ راقية من المواطنين، هي التي تُدهشنا اليوم حين نتعامل معهم فنتساءل: لماذا نلمس الاختلاف في طبيعة المواطن الإماراتي عن غيره من أبناء الوطن العربي؛ فلا نجده عنصريًّا ولا خشنًا في التعامل مع أبناء الأجناس والعقائد الأخرى؟

هكذا نجحت دولة الإمارات العربية في جعل التعليم "مشروعًا قوميًّا"، وهو عينُ ما طلبتُه أنا شخصيًّا، ومراراً، من الرئيس عبد الفتاح السيسي في لقاءاتي المباشرة معه ضمن لقائه الدوري مع المثقفين والمفكرين والأدباء، وكانت الإجابة الدائمة التي يقولها لي: “علينا إنقاذ مصر أولا من وحش الإرهاب، ووحش عجز الموازنة، ثم نبدأ في إصلاح التعليم". ودائمًا ما كنتُ أهمسُ في حزن: “أنت أدرى يا ريّس، ولكنني أرى أن الوحش الأشرس الذي ينهش في مصر ويسبب جميع كوارثها، هو الأمية والجهل".

على أن التعليم في دولة الإمارات لم يقتصر على بناء المدارس والجامعات وفق أحدث الطُرز العالمية، وحسب. إنما كان العمل على إصلاح المناهج، وتنقيتها من الغثّ الذي يهبط بالأدمغة.

هنا يجيبُنا د. علي تميم في مقاله: "شكراً خليفة على قانون مكافحة التمييز والكراهية"، قائلاً: "استطاعت لجان المراجعة للمناهج المدرسية أن تنقي عناصر المنهاج المدرسي من التحيزات الثقافية ونجحت في تلافي الفهم المتطرف المشوه للإسلام وتعديل الصور السلبية المنمطة للمرأة وتشييد مفاهيم الإسلام السمح وتعزيز صور أكثر حيوية للمرأة تناسب مكانتها التي يدعمها التراثُ الحضاري لدولة الإمارات. ومازال هذا التطوير مستمرًا لأن لغة العصر لا تخضع للثبات والتحجّر؛ بل للتطور المستمر. ولأن صيرورة المجتمعات تتطلب مثل هذه التحولات المعرفية البناءة. فالتغير هو الثابت الوحيد في مجرى الحياة".

أما عن استنان قانون حاسم يئد الطائفية والعنصرية، ثم التطبيق الرادع لذلك القانون، فيضيف د. تميم قائلا: “أما الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف فقد امتلكت الشجاعة المعرفية لتشييد نموذج جديد منبثق من حنيفية الإسلام السمحة لنبذ ثقافة الكراهية يرفدها في ذلك الوعي المتجذر بأن الفقهاء المسلمين هم قناديلُ التنوير الأولى التي تصدّت بكل حزم لأشكال التطرف والتحجر والكراهية مؤمنة بأن الفقه الإسلامي قادرٌ على مواكبة التغيرات المعاصرة وقراءة مستجدات الحياة بروح الحكمة، فزحزحت نموذج الإفتاء الأحادي النظرة المعصوم والخاضع للأهواء والتحزب ليحل محله مركز للإفتاء ينطلق من التيسير والتسامح لا التعسير والتشدد مكرسًا الفتاوى التي لا تتكئ على ضخامة الأسماء والرموز المصطنعة لنشر روح التعايش واحترام النفس البشرية ومواجهة فتاوى الكراهية والعمل على خلق نموذج إسلامي معاصر سمح يرفض الحاكمية الحزبية والتكفير والحديث عن جاهلية المجتمعات ورِدتها. فكان من الطبيعي أن تعمل الأوقاف على وضع حدٍّ لكافة خطابات الكراهية في المساجد وإعداد خطة للخطبة الموحدة لتمكين ثقافة الحياة والتسامح والوقوف في وجه ثقافة الكراهية المتسترة بجلابيب الإسلام السياسي.”

هذا تحديدًا ما نرجوه لمصر، وأرى أن لا قيامة لمصر من كبوتها الإرهابية الراهنة إلا بانتهاج النهج الناصع الذي انتهجته دولةُ الإمارات العربية وهي تصنع حضارتها. ذلك النهج الذي يقوم على محورين: إصلاح التعليم وسنُّ قانون مشدّد لتجريم التمييز والعنصرية. والأهم من سنّ القانون هو تطبيقه بحسم وردع. لأن الدستور المصري ينصُّ على تجريم العنصرية والطائفية، إلا أن الدولة تغضّ الطرف عن خطابات الشحن الطائفي في المدارس والجامعات وفوق منابر المساجد، وعلى شاشات الفضائيات! وتسمح للمتطرفين بأن يلاحقوا المثقفين بقضايا الحِسبة حتى يُسجنوا. الدولة المصرية للأسف مشغولة بمحاربة الإرهابيين، ولكنها لا تعبأ بمكافحة الإرهاب ذاته. تلاحق أذرعَ أخطبوط الإرهاب، وتبترها، ثم تغضُّ الطرفَ عن "رأسه" الذي يُنبت، مع كل نهار جديد، ألفَ ذراع.

Twitter: @FatimaNaoot