الأربعاء 25 مايو 2016 / 18:32

سيرة نساء الصين الاستعادية طوال قرن كامل!

يونغ تشانغ هي أول شخص من الصين الشيوعية يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بريطانية وهي "جامعة يورك"، وكانت أطروحتها في الألسنية

تنتمي هذه السيرة الذاتية إلى نمط السيرة الاستعادية الملحمية التي يتواشج فيها الذاتيّ الحميميّ بالتاريخيّ والسياسيّ والثقافيّ في حياة نساء صينيات ثلاث؛ جدة الكاتبة المولودة عام 1909 وابنتها التي نشأت في منشوريا في ظل الإحتلالين اليابانيّ فالروسي،ّ ثم الحفيدة يونغ تشانغ التي عاشت سنوات الثورة الثقافية حتى استقرارها بعد ذلك في بريطانيا. إنَّ هذه السيرة الاستعادية الكبرى تركز على تواشج الذاتي بالتحولات المفصلية التي انتقلت بوساطتها الصين من النظام الإقطاعي إلى الحقبة الشيوعية. إنَّ فرادة هذه السيرة الذاتية تكمن في كونها أول سيرة ذاتية نسوية لكاتبة صينية اقتحمت بجرأة بالغة خفايا المجتمع الصيني الشيوعي وأبرزت المسكوت عنه من المحظورات التي لا يُسمح بتداولها، وشرَّحت بشجاعة بارزة مفاصل الفساد الشيوعي وحطّمت الأساطير المؤسسة لرمز الثورة الثقافية ماو تسي تونغ مبينة زيف هذه الثورة التي وُسِمتْ خطأ بأنها "ثورة ثقافية"!

أنجزت يونغ تشانغ هذه السيرة الذاتية التي نشرتها للمرة الأولى في بريطانيا عام 1991 بعد أن ظلت سنوات طويلة من حياتها تعاني رعبًا من مجرد الشروع في الكتابة، وذلك بسبب معاناة الصينيين إبان عهد الثورة الثقافية الماوية من استلاب الحريات؛ إذ كانت الكتب تُحرَق، واضطر والد تشانغ الذي كان مسؤولاً كبيرًا في الحزب الشيوعيّ إلى إحراق الكتب التي كان يحبها مما أدى إلى جنونه في النهاية. وكانت الكتابة الإبداعية الفردية أمرًا في غاية الخطورة، وقد أُجبِرَتْ يونغ تشانغ على تمزيق أول قصيدة كتبتها في حياتها، وذلك في يوم ميلادها السادس عشر ورمت بأوراق القصيدة الممزقة في المرحاض بعد مداهمة الشيوعيين لمنزل والدها. لم تسمح الصين الشيوعية بنشر هذا الكتاب فيها. ورغم ذلك فإنَّ هذا الكتاب له رواج كبير فيها وتوجد له بعض النسخ المقرصنة التي يتداولها الناس هناك، وقد استغل أحد المحتالين الصينيين إتقانه للغات أجنبية وأخذ يدعي للسياح الأجانب أنه صديق مقرب من تشانغ محققًا من وراء ذلك الادعاء الكاذب أرباحًا لافتة!.تقول تشانغ:" يبدو أنَّ النظام يعتبر الكتاب مهددًا لسلطة الحزب الشيوعي."بجعات برية" قصة شخصية، إلا أنها تعكس تاريخ الصين في القرن العشرين، الذي لايعطي الحزب صورة جيدة. قام الحزب بغية تبرير سلطته بإملاء نسخة رسمية عن التاريخ،لكن "بجعات برية" لا يلتزم ذاك التوجه. إنَّه يبين في شكل خاص أن ماو أساء في حكم الشعب الصيني، وبإجرام، على عكس ما تقوله بكين بأنه في الأساس قائد جيد وعظيم. لا تزال صورة ماو معلقة اليوم في ساحة تيان_آن_مين في قلب العاصمة، وقبالة مساحة الإسمنت الواسعة ترقد جثته وكأنها أداة عبادة. ولاتزال القيادة الحالية تؤيد أسطورة ماو، لأنها تصور نفسها وارثة له، وتدعي الشرعية من خلاله".

إنَّ يونغ تشانغ هي أول شخص من الصين الشيوعية يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بريطانية وهي "جامعة يورك"، وكانت أطروحتها في الألسنية. وقد تمكنت تشانغ بفضل مشرفها على رسالة الدكتوراه البروفيسور لوباج من القضاء على قلقها الدائم الذي كان ينتابها بفعل الثقافة الاستبدادية التي تعرّضت لها. تقول تشانغ:" لقد تدربنا نحن في الصين على عدم استخلاص النتائج من الوقائع، بل الانطلاق من النظريات الماركسية أو أفكار ماو أو توجه الحزب، ورفض الوقائع التي لا تتوافق معها أو حتى إدانتها". ولذلك عندما طلب المشرف البروفيسور لوباج من تشانغ أن تريه أطروحة الدكتوراه ارتبكت حائرةً ثم هتفت"لكني لم أبدأ بها بعد!" فقال:" لكن لديك كل الاستنتاجات". نستطيع أن نرى تمثيلات المرأة الصينية في حياة هؤلاء النسوة الثلاث، الجدة والأم والحفيدة. لقد عاشت الجدة زمن الصين الإقطاعية ومُنِحَتْ لأحد أمراء الحرب وجنرالاتها لتكون خليلته وهي لاتزال في الخامسة عشرة من عمرها، وبقيت أسيرة لهذا القدر؛ أي محظية بلاط من الطبقة الراقية حتى وفاة سيدها سنة 1932 بعد أن أنجبت منه بنتًا وحيدة هي أم الكاتبة التي عاصرت الثورة الثقافية ثم الحفيدة التي درست في بريطانيا.

تقول تشانغ في خاتمة هذه السيرة: "أصبحت الصين مكانًا مختلفًا بالكامل، منذ أن غادرتها. في نهاية 1978، تخلى الحزب الشيوعي عن "الصراع الطبقي". ورد اعتبار المنبوذين اجتماعيًا. بمن فيهم "الأعداء الطبقيون"، وكان بينهم أصدقاء أمي من منشوريا، الذين وصموا ب" معاداة الثورة".

تمثل هذه السيرة الذاتية بتمثيلاتها التاريخية المجازية الكبرى مزيجًا بين الأدب والتاريخ، نستطيع القول أنها سيرة استعادية ملحمية لتاريخ أمة في أجيالها الثلاث المفصلية وفي تحولاتها المشتبكة مع إيديولوجيا شمولية كُتِبَتْ بقلم امرأة رصدت بحساسية انكسار الإنسان الصيني من القطيع الإقطاعي إلى القطيع الشمولي الشيوعي. ولا أعرف عندما قرأت هذه السيرة لماذا توارد على ذهني المشهد الأخير لفيلم"الإمبراطور الأخير" الذي يسرد حياة أباطرة الصين الإمبراطور بو_لي الذي عاش في المدينة المحرمة في بكين .هذا المشهد يبين ماذا حدث عندما فقد هذا الإمبراطور سلطته الرمزية وأصبح جنديًا عند الشيوعيين...كان المشهد يمثل قطيعًا من الرجال المتشابهين الحليقي الرؤوس يرتدون زيًا واحدا كان من بينهم الإمبراطور الذي كان واحدًا من قطيع لايسهل تمييزه!