الأربعاء 25 مايو 2016 / 18:31

أوباما في فيتنام

إن انتقال شعوب "العالم الثالث" من طور الصراع ضدّ الخارج الغربيّ إلى طور البناء الوطنيّ للدول يرفع سويّة العامل الاقتصاديّ والتنمويّ على حساب العنصر السياسيّ أو الإيديولوجيّ

لا تطوي زيارة فيتنام التي أدّاها الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما صفحة الحرب الباردة، إذ طويت تلك الصفحة فعلاً قبل ربع قرن. إلاّ أنّها، مع هذا، تطوي صفحة ما بعد الحرب الباردة، أي ذاك الاشتباك المتواصل بين الغرب عموماً، والولايات المتّحدة الأمريكيّة خصوصاً، وبين شعوب ما كان يُعرف بالتحرّر الوطنيّ. وهذه الأخيرة كانت قد وجدت في تحالفها مع الاتّحاد السوفييتيّ السابق داعمها وحليفها في مواجهتها مع الغرب، علماً بأنّ مواجهتها هذه سابقة على الحرب الباردة وغير متطابقة بالضرورة معها ومع ما أنتجته من اصطفاف.

فعلى غرار المصالحة الفرنسيّة – الجزائريّة سابقاً، يأتي استكمال المصالحة بين واشنطن وهانوي ليسجّل الحقيقة البارزة، بل المركزيّة، التالية: إنّ انتقال شعوب "العالم الثالث" من طور الصراع ضدّ الخارج الغربيّ إلى طور البناء الوطنيّ للدول يرفع سويّة العامل الاقتصاديّ والتنمويّ على حساب العنصر السياسيّ أو الإيديولوجيّ.

ليس هذا فحسب، إذ يمكن القول إنّ الاقتصاديّ والمنفعيّ الخالص صار في حالات كثيرة مناقضاً للإيديولوجيّ. ذاك أنّ فيتنام، ومَثلها بالغ الدلالة، كانت حليف الصين، فضلاً عن الاتّحاد السوفييتيّ، في طورها الصراعيّ السابق. أمّا اليوم فيكمن أحد أبرز أسباب انفتاحها على الولايات المتّحدة في خوفها التقليديّ من الصين وطموحاتها العملاقة في ظلّ محدوديّة القدرة الروسيّة على مواجهة الصين.

لكنّ المسألة لا تتعلّق بفيتنام والبلدان المشابهة لها فحسب، بل تتعلّق أيضاً بالسياسة الأمريكيّة في طورها الراهن كما يعبّر عنها نهج رئيسها الحاليّ أوباما. ذاك أنّ الأخير أحدث عدداً من الانقلابات الكبرى التي، وبغضّ النظر عن الرأي فيها، سبق أن رأينا بعض تجلّياتها في الانفتاح على كوبا، كما في تسوية الملفّ النوويّ مع إيران.

وأهمّ تلك الانقلابات، في ما يعنينا هنا، اثنان. الأوّل هو الابتعاد عن بؤر الصراع التقليديّة لزمن الحرب الباردة، وهو ما لا يسري فقط على منطقة الشرق الأوسط، بل يمتدّ ليشمل أوروبا نفسها التي تراجعت أهميّتها قياساً بأهميّة آسيا والمحيط الهادئ (الباسيفيكيّ). وغنيّ عن القول إنّ تحوّلات الخريطة الاقتصاديّة ومصالحها، بما فيها تراجع أهميّة نفط الشرق الأوسط، هي ما أملى هذا الانقلاب الكبير.

أمّا الانقلاب الأوباميّ الثاني فمفاده إحلال عناصر القوّة الوديعة، أو اللطيفة، لا سيّما منها ما يتّصل بالتقدّم التقنيّ وما يتفرّع عنه على أصعدة الثقافة وطرق الحياة، محلّ عناصر القوّة الحربيّة. ولا بدّ هنا من التذكير بأنّ صعود أوباما نفسه في السياسة الأمريكيّة إنّما بدأ بوصفه استجابة لمناهضته حرب العراق في 2003. لا بل يذهب كثيرون من المراقبين والمعلّقين إلى التعامل مع سيّد البيت الأبيض بوصفه ردّة فعل على سياسات سلفه جورج دبليو بوش الذي قاد بلاده إلى حربين شديدتي الكلفة في أفغانستان والعراق بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

غير أنّ أوباما، كما نعلم، يقضي أيّامه الأخيرة في سدّة الرئاسة الأمريكيّة. وهذا ما يجيز التساؤل عن حظوظ سياساته في التحوّل إلى محطّ إجماع لاحق على عهده الرئاسيّ. فسؤال كهذا يستقي أهميّته من عنصرين اثنين، أوّلهما أمريكيّ يلخّصه صعود مرشّح كدونالد ترامب لا يعكس، في شخصه وفي سلوكه، أيّاً من الهواجس الأوباميّة، بل قد يكون ردّاً جلفاً عليها. أمّا الثاني فيتّصل بطبيعة القوى التي ينفتح أوباما عليها، لا سيّما منها إيران الخمينيّة، ومدى استعدادها الفعليّ للعيش في عالم لا تحكمه اعتبارات القوّة المحضة!