الجمعة 27 مايو 2016 / 22:11

الغنوشي: أبعدما احدودب الظهر واتسع الخرق على الراقع؟

تبنت الحركات الإسلاموية، والسلفية والإخوانية وبقية الحركات الأصولية سواء أكانت ترفع شعار الحاكمية أم ولاية الفقيه، شعارات تجميلية زائفة وشيّدت خطابات إصلاحية موهومة للخروج من الروح المنكسرة التي سادت بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧. وفي تلك العمليات التجميلية التي بدأت منذ أربعة عقود ونيّف، جرى تزييف الحقائق وأسبغ على هذه الحركات دور بطولي، بل إنّ بعض من رفع الخطابات التنويرية قد دخل، للأسف، في مهمة التسويق لتلك الحركات، لدرجة أنّ بعض الأنظمة العربية انطلى عليها هذا التزييف جراء الروح المنكسرة التي كانت تبحث عن قشة لتنجو، وكان يحدوها ما يحدو الغنوشي اليوم، وهو الوصول إلى السفينة، التي تحمله إلى بر الأمان حتى لو تمت النجاة بمجاذيف التدليس.

لعل هذا يفسر، رفع الحكومات العربية آنذاك شعارات الإصلاح، رغم أنه لم يمض على استقلالها عقد من السنوات، وهو ما شجع التنظيمات الإسلاموية على التوغل في المفاصل الحيوية لتلك الدول، وتتمسح على نحو غير مسبوق بالإصلاح في شتى المحافل و في مختلف المناسبات، مدفوعين بتأويل غريب لآية كريمة جاءت في سورة هود على لسان نبي الله شعيب، قال تعالى: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" والآية في معظم تفسيراتها لا تحمل بعدا سياسيا، وإنما تقتصر على الأبعاد الدينية كالإيمان والتوحيد والعبادة وحسن الخلق. وقد جاءت في التنزيل الكريم على نحو يفصح عن مقاصدها الاخلاقية الخالصة: "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"، لكن الحركات الإسلاموية أسرفت في تسييس الدلالات الخاصة بالآية الكريمة ونقلتها من سياقها الديني إلى غمار الفعل السياسي، بعيدا عن معانيها الخلقية التي تشير إلى عدم جواز التناقض بين القاعدة الأخلاقية والفعل المنبثق عنها.

ثم ّ تقدم الإخوان في ضوء ذلك التاويل خطوات فأنشؤوا جمعيات شتى في البحرين والإمارات والصومال والمغرب والسعودية والأردن وغيرها تحت مسمى الإصلاح، ويبدو أن راشد الغنوشي قد عاد إلى الوعي أو عاد الوعي له، عندما أعلن بأن حركة النهضة ستتخلى عن هذا المزج بين السياسة والإسلام، وستفصل بين ما هو دعوي وما هو حركي، فهل نصدق ذلك؟ فإنّ من افترى من قبل على كتاب الله، لن يتوانى في الكذب على خلق الله.

كانت العمليات الإصلاحية التجميلية التي أجريت على هذه الحركات الإسلاموية قد أخفت العيوب وجمّلت التشوهات، واستطاعت، نظرا للتدفق المالي الرهيب، أن تجمل الصور وتداري القبح المشين. لكن علينا أن نتوقف عند معنى العملية التجميلية هذه، فهي تعني ستر التشوه بعد علاج الالتهاب المسبب لذلك، لكن ما حدث أن دعاة هذه التيارات الإخوانية والسلفية والأصوليات الأخرى سواء أكانت سنية أم شيعية جمّلت تشوهاتها دون أن تعالج الالتهابات، ليتفاقم الالتهاب سنة بعد أخرى, دون أن يشعر به أحد، فدعاة التدين قادرون على أن يجعلوا الناس يعيشون في الأمراض وهم سعداء، ويتمنوا الموت والحياة تفتح لهم أبوابها الواسعة.

لكن خطوة الغنوشي هذه تبين أنّ العملية التجميلية أتت متأخرة، بعد أن اتسع الخرق على الراقع، إذ أن المنظومة الإخوانية ومن بينها السلفية المتشددة تحتاج بأكملها إلى تدخل جراحي كبير، وإذا كانت الأمراض الجسدية بعدما تطور العلم يمكن علاجها، فإن الروح من أمر ربي، فكيف العلاج عندما تصدأ النفس ويتلف الجسد!

لقد أربك ما قام به الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية، في هذه الخطوة بعضهم، الذين خلعوا عليه مسمى "المصلح"، لكنّ ما قام به الرجل من فك الارتباط بين السياسي والديني، لا يمكن عده إصلاحاً، فالإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشكلات والأخطاء الجادة دون المساس بأساسيات النظام، وفك الارتباط بين الديني والسياسي في النهضة ومثيلاتها هو لون من التفكيك للبنية الكلية يتعذر معه بقاؤها، كما أن بعضهم تردد في أن يطلق عليه مصطلح "الثائر" لأن الثورة عادة ما تكون سياسية على نظام بأكمله، وتسعى للتغيير الجذري والشمولي. ولم يعرف عن راشد الغنوشي بأنه من أصحاب المذهب الوجودي حتى يثور على نفسه وذاته، فمن حيث الوصف يتعذر إيجاد مصطلح يصف ما قام به لكن من الجلي أنه قرر أن يجري عملية تجميلية بعد أن اتسع الخرق فهل يصلح الغنوشي ما أفسد الدهر؟ وهيهات لرقع الجسد أن يبريء الروح الإخوانية من علاتها وأوصابها المزمنة التي مر عليها أكثر من ثمانين عاماً.

لقد قالت العرب :" لا يصلح العطار ما أفسد الدهر"، رغم أن عطار اليوم يختلف عن عطار الأمس الذي ليس في حوزته إلا الحناء والأعشاب وهو يمتلك اليوم التكنولوحيا المتطورة والأدوية الطبيعية وغير الطبيعية، إلا أنه لا يستطيع في الوقت نفسه تجميل الملامح كاملة، وإن فعلها، فلن يعود الاخوان إخوانا، وبذلك يصدق عليه ما قاله الشاعر:

عجوز تمنت أن تكون فتية
وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر
تروح إلى العطار تبغي شبابها
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

لكن عندما يقرر الشعب التونسي أَن يصلح ما أفسد "العطار" فإنه قادر بلا أدنى شك في رد العجوز إلى شبابه والشيخ إلى فتى، فليس الغنوشي إذن من قال كلمته، بل الشعب التونسي الذي أجبر الغنوشي مثلما فعل الشعب المصري قبله، مع أن الوقت مبكر للحكم على دوافعه، إلا أن هناك وعياً كبيراً لا يرى في الإسلام السياسي إلا بضاعة كاسدة خاسرة. وعندما يفعل التونسيون ذلك يكون الزمن قد أصلح ما أفسده "العطار".