الأحد 29 مايو 2016 / 19:47

المُستضعَف والضعيف

فكيف يرِد بفكر قارئ أنني أصف أقباطَ مصر المسيحيين بالضعاف وهم أصحاب الفضل علينا في أرقى التعليم بمدارسهم، وهم رمّانة الميزان الذين يحافظون على اقتصاد مصر من الانهيار رغم الكوارث التي تمرُّ بها منذ قرون

صبيةٌ جميلة اسمها "بسنت" لفتت نظري إلى كلمة أستخدمُها أحيانًا في مقالاتي، ربما تحتاج بعض التوضيح اللغوي، وقد كنتُ أظنُّها واضحةَ المعنى. لهذا أكتب هذا المقال لأطرح الفارقَ الهائل بين كلمتين: الضعيف – المُستضعَف.

كتبت "بسنت" تعليقًا على صفحتي يقول:
(جميل جدًّا يا أستاذة. بس يضايقني فى كل وصفك للمسيحيين المظلومين دول إنهم غلابة. لكن الحقيقة أنهم ناس محترمين ومتربيين وبيحاولوا على قدر ما يقدروا يحافظوا على إنسانيتهم، وينتظروا القانون على أمل يطبق. علشان مايتحولوش ويبقوا زي الكائنات الهمجية التانية‬؟! )
هذا العتاب الرقيق الغاضب، كتبته "بسنت فهمي"، تعليقًا على مقالي: “جلباب سعاد وأُذن أيمن" الذي نشرته بالأمس حول الواقعة المُخزية التي حدثت في صعيد مصر هذا الأسبوع، حين تجرأ بعض "الذكور"، ولن أقول "الرجال"، على سيدة مُسنّة في السبعين من عمرها، ليجرّدوها من ملابسها ويسحلوها في طرقات البلدة، عقابًا لابنها بسبب شائعة (صدقت أم كذبت)، فأهينت امرأة "مستضعفة" جراء ذنب لم تأته يداها.

واندهشتُ كثيرًا! فأنا طوال عمري لم أستخدم كلمة (غلابة) لأصف المسيحيين أو غير المسيحيين! فهذه الكلمة ليست من معجمي. فكتبت لها:
“‫مين قال غلابة؟ أعوذ بالله! هاتِ لي مقالاً واحدًا قلت فيه هذه الكلمة من فضلك!”

‬”فكان جوابها: “بس حضرتك تقصدي ايه بجملة (بعض المستضعفين)؟ أنا قصدي إن دي ناس بتحاول على قد متقدر تحافظ على إنسانيتها حتى لو ظهرت فى نظر بعض الناس إنها ضعيفة ومستسلمة. مع العلم كل مرة بنادي بتطبيق القانون ولكن لا حياة لمن تنادي".

هنا تداخلت قارئة أخرى اسمها "مارجا" وأوضحت لبسنت بعضَ ما أعني فقالت: “‫معلش يا أستاذة بسنت. الحقيقه المُرّه اللي قالتها الاستاذة فاطمة ناعوت بتجرحنا بس للأسف دي حقيقه. هي استعملت كلمة المستضعفين ومش غلطانه علشان لما الذئاب البشرية قطعت أُذن أيمن عرفت إن الفئه التي ينتمي إليها هم من المستضعفين ولما جردت الست من هدومها وسحلتها برضه عرفو إنهم بيتعاملوا مع مستضعفين والأستاذة قصدها الأقلية التي ترد على الإساءة بالتسامح والمحبة‬.”

وبالفعل فقد استخدمتُ مفردة "المستضعفين في الأرض" حين تكلمت عن تلك السيدة المسيحية الطيبة التي تجرأ عليها الأفظاظ، وحين تكلمت عن المسيحي البسيط "أيمن ديمتري" الذي بتر المتطرفون أُذنَه قبل أعوام في إحدى قرى الصعيد، ولم يأت له القانون بحقه حتى اليوم، لأنه سامح أعداءه وصفح عنهم، ولم يتقدم ضدهم ببلاغ رسمي.

‬‬لكن تعليق الصَبيّة "بسنت"، ومن بعدها "مارجا"، جعلني أدرك أن ثمة محنة لغوية قد تُعطّل وصول كلماتنا إلى القارئ، حين تلتبس المعاني مع الكلمات. وكان لابد من بعض التوضيح اللغوي.

هناك فارق هائل بين كلمتيْ: ضعيف – مُستضعَف. دعونا نلجأ للقرآن الكريم، المَعين اللغوي الثري الذي ننهل منه راقي المعاني. يذكر لنا الكتاب في سورة "الأعراف" الآية ١٥٠ أن سيدنا موسى عليه السلام قال لأخيه: “إن القومَ استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تُشمِتْ بيَ الأعداءَ ولا تجعلني مع القوم الظالمين.” كما ذكر القرآن في سورة "القصص" الآيات من (٤- ٦): “إن فرعونَ عَلا في الأرض وجعل أهلَها شِيَعًا يستضعفُ طائفةً منهم يذبحُ أبناءَهم ويستحيي نساءَهم إنه كان من المُفسدين. ونريدُ أن نَمُنَّ على الذين اِستُضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئِمةً ونجعلهم من الوارثين. ونُمكّن لهم في الأرض ونُرِي فرعونَ وهامان وجنودَهما منهم ما كانوا يحذرون.” في تلك الآية يصف اللهُ فرعونَ بالفساد والتجبّر لأنه قسّم أهل مصر ونشر بينهم الطائفية والانقسام وجعل بعضهم يستضعفون بعضًا ويقهرونهم ويذبحون أبناءهم ويستحلّون نساءهم، ووعد اللهُ أولئك المُستضعفين بأن يجازيهم خيرًا ويكونوا ورثة الأرض، ثم يُذيق فرعون على أيدي أولئك المستضعفين ما يُلقي الرعبَ في قلب فرعون ووزيره الجبار.

وبالتأكيد لم يكن نبيُّ الله موسى ضعيفًا، ولا كان أهلُ مصرَ الأشداءُ ضعافًا. إنما المُستضعَف هو الذي يعتبره الآخرُ ضعيفًا، لسبب أو لآخر، وما هو بضعيف.

وفي المعجم نرى ما يلي:
“استضعفَ فلانٌ فلانًا، أي عَدّه ضعيفًا، فقهره واستذلّه. وكلمة "الاستضعاف" مشتقّة من مادة "ضعف"، ولكنّها لما استعملت في باب "الإستفعال" دلت على مَن يُكبّل بالقيد والأغلال ليُجرّ إلى الضعف. فليس المستضعَف هو الضعيف ولا الفاقد القدرة والقوّة؛ إنما المستضعف من لديه القوة، ولكنّه واقعٌ تحت ضغوط الظالمين الجبابرة، وبرغم أنّه مكبلٌ بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه يقاوم ولا يستسلم، بل يسعى دائمًا لتحيطم الأغلال ونيل الحرية، والتصدي للجبابرة والمستكبرين، ونُصرة مبدأ العدل والحق. وهم من وعدهم الله سبحانه بالمنّ وميراث الأرض.

فكيف يرِد بفكر قارئ أنني أصف أقباطَ مصر المسيحيين بالضعاف وهم أصحاب الفضل علينا في أرقى التعليم بمدارسهم، وهم رمّانة الميزان الذين يحافظون على اقتصاد مصر من الانهيار رغم الكوارث التي تمرُّ بها منذ قرون، بل أن المسيحيين في كل أنحاء العالم هم علماءُ العالم الذين أثروا البشرية بمخترعاتهم واكتشافاتهم العلمية في الطب والفلك والتكنولوجيا والعمارة والموسيقى والآداب وكافة العلوم والفنون؟!
أرجو أن يُزيل هذا المقال أي لبسٍ لغوي وقع في ذهن أي قارئ حول مفردة المستضعفين التي ترد أحيانًا في مقالاتي أحيانًا. وأشكر بسنت "الغاضبة" لأنها لفتت نظري إلى هذا اللبس اللغوي.