جزيرة دلما (أرشيف)
جزيرة دلما (أرشيف)
السبت 29 يونيو 2013 / 19:45

جزيرة دلما: تاريخ يحكي تراث دولة الإمارات

يفوح من جزيرة دلما عبق تراث الأجداد وكل حبة رمل فيها تتحدث عن آلاف الذكريات وصوت أمواجها تحكي قصص الغواصين الذين مروا بأرضها وتزودوا بمائها، فقد كانت قلباً نابضاً ومركزاً لانطلاق كل سفن الغوص بحثاً عن اللؤلؤ.

وتعتبر جزيرة دلما من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك لما حباها الله من نعمة الماء العذب الموجود فيها، حيث كانت ملاذاً آمنا للصيادين والبحارة والتجار الذين يركبون البحر بحثاً عن الرزق في أنحاء المعمورة، كما أن وجود مغاصات اللؤلؤ الكثيرة والمشهورة حولها جعلها تنفرد بتجارة اللؤلؤ .

كانت جزيرة دلما منذ أقدم العصور منطقة استقرار بشري وازدهار حضاري إذ تشتمل بعض المواقع على مقتنيات ومبان ومساجد أثرية نادرة ومتحف دلما يضم آباراً ومقتنيات من قطع فخارية وأدوات وآلات وآثاراً مادية متنوعة تعود لمئات السنين، كما تنتشر على ارض الجزيرة شواهد تاريخية مثل حصى الغوص المصنوع من الحجارة وأخرى مصنوعة من الرصاص وجزءاً من المحار الذي احتوى على اللؤلؤ، والجرار التي تحفظ المياه وغيرها من الآثار التي تدل على أصالة وعراقة سكان دلما في الماضي.

ووجود المباني الأثرية كالمساجد والبيوت وآبار المياه الصالحة للشرب يدل على استقرار الناس في الجزيرة منذ زمن بعيد ومن بين المباني الأثرية مسجد محمد بن جاسم المريخي وبيت المريخي الذي أعيد ترميمه ليكون موقعاً لمتحف دلما، إضافة إلى مواقع كان لها دور تاريخي وحضاري هام وما تم الكشف عنه في هذه المواقع يعود إلى حضارة عمرها سبعة آلاف عام .

وتضم إحدي مجموعات مباني القرن التاسع عشر التي تم ترميمها مؤخراً علي الجزيرة منزلاً لأحد أشهر تجار اللؤلؤ محمد بن جاسم المريخي، في حين تتضمن خزفيات عثر عليها خلال عمليه ترميم أسس مسجد مجاور قطع فخارية تعود إلي أوائل العصر الإسلامي المتأخر كما توضح مجموعة الخرائط القديمة الموجودة في بيت المريخي علاقة البيت التجارية مع الأسواق المحلية والإقليمية وتؤكد الدور الدبلوماسي والسياسي لهذا المنزل فجميع الخطوط البرية العابرة لمياه الخليج كانت (كما توضحها الرسوم والخرائط) تأخذ من دلما مركزاً ونقطة التقاء وانطلاق، لاسيما إذا ما أخذنا بالاعتبار الوفرة الهائلة من المياه العذبة في الجزيرة.

وأكبر دليل على ذلك العدد الكبير من آبار الشرب القديمة والتي ما زالت حتى الآن تفيض بالمياه العذبة خاصة الآبار الموجودة قرب بيت المريخي وفي المساجد والتي تشكل مجتمعة مركزاً للمدينة آنذاك فخطوط الملاحة البحرية تبدأ وتنتهي في الجزيرة والسلاسل الموجودة حتى الآن المثبتة في أرضية القناة الواصلة بين البيت والبحر تدل على أن السفن التجارية كانت تتخذ من هذا البيت مأوى ومركزاً للتموين والتزود بالماء والبضائع واللؤلؤ والدبس وغيرها من المواد الغذائية، وكانت العلاقة التجارية تزيد من أواصر الترابط والتلاقي الثقافي والاجتماعي والفكري مع دول الجوار .

ولا تزال الجزيرة بحسب المؤرخين تحتوي على بعض أفضل المباني القائمة منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي وفي حين خضعت المساجد والبيوت التي ترجع إلى تلك الفترة في الأماكن الأخرى لإعادة البناء تمت المحافظة على بيوت جزيرة دلما لتظهر الهندسة المعمارية التي اختفت تقريباً من جميع أنحاء إمارة أبوظبي .

مركز التجارة البحرية
ولم تفقد جزيرة دلما أهميتها كمركز للتجارة البحرية إلا بعد اختراع اللؤلؤ الصناعي خلال النصف الأول من القرن 20 وما تبعه من انكماش صناعة اللؤلؤ بالخليج ومع ذلك بقيت أهمية جزيرة دلما بالنسبة لإمارة أبوظبي بسبب وجود أكثر من 200 بئر في الجزيرة مما جعل منها مصدراً هاماً من مصادر المياه العذبة حتى خمسينيات القرن الماضي .

وفي عام 1992 أجرى فريق من العلماء الدوليين بدعم من حكومة أبوظبي مسحاً لأكثر من 20 موقعاً أثرياً في الجزيرة حيث تم الكشف عن قصة مركز بحري قديم للتجارة ما بين العراق والسعودية.

المؤرخون
ويعود المواطن ياعد بن سالم القبيسي (65 عاما أحد سكان الجزيرة) إلى زمن الأجداد وما سمع من حكايات وروايات، قائلا: تشدنا دائماً أحاديث وروايات الأجداد والآباء عن جزيرة دلما وحسب معلوماتنا وما نقلناه عن مجالسهم فأنه قبل نحو 300 عام كانت جزيرة دلما تخلو من الماء العذب ويأتيهم ماء الشرب من البصرة في محامل وأبوام (سفن)، ويقوم الأهالي بحفظ الماء في التوانكي حديد (خزانات حديد) وإذا أمطرت السماء زادوا الماء في التوانكي ولكن معظم ماء المطر كان يذهب للبحر هدرا مما شكل خسارة كبيرة للأهالي وساكني الجزيرة ففكر الجميع في طريقة للاستفادة من تلك المياه خاصة في ظل شح المياه وبنوا سداً لحفظ المياه ولكن كانت أرض الجزيرة صخرية وبها أكثر من مائتي بئر دائرية قديمة محفورة قطر البئر الواحد حوالي 40 سنتمير وبعد بناء السد أخذ ماء المطر يتجمع فيها بغزارة والبئر الواحد كان يكفي السكان لمدة سنة كاملة وأصبح في الجزيرة مخزوناً هائلاً من المياه يتحدث عنه الشرق والغرب.

ويضيف: "الطوايا (الآبار) السطحية نسميها "بحوث" وهي الآبار التي يستطيع الشخص الجلوس بجانبها ويغرف الماء منها بيده بكل سهولة ويسر.

ويتابع القبيسي: "بعد أن أصيبت سوق اللؤلؤ بالكساد لم يبق في دلما إلا عدد قليل من العوائل بعد أن كانت في يوم من الأيام تقارب الآلاف وعاشت دلما في سبات ولم تستيقظ منها إلا على وقع خطى زايد عندما وطأة قدماه أرضها لتحيي كل كنوز السحر وتبعث فيها الحياة لتصبح عروس جزر الخليج في ظرف سنين قلائل.

ويؤكد القبيسي أن جزيرة دلما الضاربة في عمق التاريخ والحكايات والأساطير، اشتهرت في الماضي بإنتاجها الغزير من اللؤلؤ وكان في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يسكنها حوالي 500 شخص وتمتلك أسطولاً يضم أكثر من 500 سفينة وكان عدد الغاصة فوق كل سفينة يتراوح بين الخمسين ومائة وخمسين غواص وفي موسم الغوص كان يصل عدد سكان دلما إلى أكثر من عشرة آلاف نسمة عبارة عن سكانها الأصليين والغاصة وتجار اللؤلؤ.

وتابع: "في أوائل الأربعينات كانت الآلاف من سفن الغوص القادمة من مختلف الإمارات تتجه إلى مغاصات بولحنين وبومرطبان وأم الشيف ومحزم والغلان وأم العنبر والمعترض وأريلة وبودياية وأم الصلصل وبوحصير وبو الخلاخيل وامدورة وبو الحصا وبو الضلوع والميدان ودستور وطباب وأم عويرض واكثر الجزر المحاطة بالمغاصات المعطاءة والوفيرة بخيراتها من اللؤلؤ الطبيعي الثمين هي جزيرة دلما، لذلك كان انتشار سفن الغوص الكبيرة والصغيرة حولها يشكل ظاهرة طبيعية جلية للقريب والبعيد في كل موسم صيد حيث تشاهد مئات سفن الغوص ومجموعات كبيرة من الغواصين منهمكين في عمليات الغطس بالسلال المعلقة في رقابهم وكانت سفن الطواويش تتجول بين سفن الغوص لشراء حصيلتها اليومية من اللؤلؤ ومن ثم الاتجار بين الطواويش الصغار وأشهر التجار.

وذكر القبيسي أن من أهم النواخذه الذين اشتهروا في جزيرة دلما حسين بن قريوش ويعقوب بن علي القبيسي ومحمد بن سعيد بن بيات وسند بن علي، ومن أشهر الطووايش سالم بن ياعد القبيسي وفهد بن راشد الدوسري ومحمد بن جاسم المريخي وأبنائه وسعيد بن علي المهندي .

وعن أهم المناطق الموجودة في الجزيرة يقول: "أهم مناطق جزيرة دلما منطقة المنيوخ وجرن الصغاير وجبل بوعمامة والذي يروى أن سكان الجزيرة في موسم الغوص من باب التفاؤل يكسونه بالقماش أملا في الحصول على حصباه وإذا صادف موسم الغوص ولم يكسونه ولم يرزقهم الله أرجعوا السبب إلى عدم تغطيتهم للجبل".
ويواصل: "عندما سطع نجم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، في ابوظبي أشرقت شمس دلما وتطورت الحياة بسرعة في الجزيرة وانتقلت إلى أنماط أكثر حداثة وذقنا طعم الراحة بعد قصة طويلة من التعب والشقاء".

ويقول" الإنجازات الهائلة والمشاريع الضخمة في الجزيرة بدأت عام 1978 ويوجد بها الآن عدد كبير من المساكن الشعبية التي وزعت على المواطنين بالإضافة إلى مستشفى حديث وطرق داخلية معبدة وموانئ متكاملة لرسو مراكب صيد الأسماك ومحطة ضخمة لضخ المياه العذبة وأخرى لتوليد الكهرباء وجمعية تعاونية وفرع لجمعية نهضة المرأة الظبيانية".

ويضيف: "نجحت دلما في زراعة بعض أصناف الخضروات والفاكهة والأشجار المثمرة خصوصاً أشجار العنب والبرتقال والجوافة والرمان إلى جانب أشجار النخيل التي تزرع منذ زمن بعيد في الجزيرة كما تم زراعة مساحة كبيرة من الجزيرة بأشجار الغابات في إطار مشروع كامل للتشجير".

ويواصل القبيسي: "تابع الشيخ زايد بنفسه مسيرة التطور والنماء في الجزيرة وكان يقف بنفسه على كافة المشاريع ويتابعها أولاً بأول وقد أمر بضرورة إحياء التراث وبعثه من جديد على أرض الجزيرة بواسطة إحياء تراث الغوص ورحلاته في هيارات دلما الغنية وما حولها على نفقته الخاصة ويقوم الغواصون من أصحاب الخبرة ومن الشباب الذين تم تعليمهم أصول هذه المهنة حديثا بالغوص بالطرق التقليدية والطرق الحديثة.

ويقول: "أصبحت الجزيرة اليوم مدينة كاملة الخدمات من جميع النواحي ومن ضمنها الاهتمام بالآثار ويظهر ذلك في الاهتمام بترميم المباني التراثية والتنقيب المستمر عن الآثار وكذلك يوجد في دلما الآن جميع المرافق من التعليم والخدمات الصحية والأمنية والماء والكهرباء والأشغال والبريد والنوادي وخدمات البنوك والفنادق والجمعيات التعاونية وغيرها الكثير من الخدمات التي تزخر بها دلما".

ومضى يقول "الحمد الله اليوم لا ينقصنا شيء بفضل الله وبفضل قيادتنا الرشيدة إذ ننعم بالأمن والاستقرار ونعيش المدنية الحديثة بكل تفاصيلها ولا ينقصنا شيء".

وبدوره المواطن محمد فرج القبيسي (70 عاما) يقول: "ولدت في ليوا في محضر الظويهر وخرجت للغوص في جزيرة دلما مع والدي وخالي عندما بلغ عمري 12 ربيعاً".

وتابع: "وجود الماء جعل من الجزيرة أكبر وأشهر سوق للؤلؤ في المنطقة قبل انهيار اللؤلؤ الذي بدأ تدريجياً منذ أواخر العشرينات ولكن عمليات الغوص والاتجار باللؤلؤ الطبيعي استمرت قبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة، فقد دأبت سفن الغوص على الخروج لأداء عملها ولكن بتناقص واضح في أعداد السفن سنة بعد أخرى، ولكن اكتشاف النفط وبدء تصديره من البحرين والكويت والسعودية وقطر عجل بشكل واضح في إعلان انتهاء زمن الغوص، حيث فضل آلاف البحارة والغاصة العمل بمهن مختلفة في حقول النفط والتعدين، وساهم تأخر ظهور النفط وبدء تصديره من الإمارات إلى أوائل الستينات في استمرار مهنة الغوص، ولكن على استحياء إلى أوائل الخمسينات حيث بدأت منذ تلك الفترة هجرة الآلاف من أبناء الإمارات إلى السعودية وقطر والكويت والبحرين للعمل في حقول النفط والدوائر الحكومية".

ويواصل: "امتهن سكان الجزيرة صيد الأسماك كمصدر رئيسي للغذاء وتشتهر الجزيرة بصناعة القراقير وشباك الصيد أو ما تسمي بالغزل والتي تختلف أنواعها حسب أنواع السمك فهناك الغزل الخاص بالكنعد وهناك الغزل الخاص بسمك البدح والصافي وغيرها من أنواع السمك التي تتميز بصغر حجمها لذا تجد ان الغزل يختلف بحسب نوع وحجم السمك المراد صيده".

وأضاف: "جزيرة دلما ذات تاريخ حافل بالكدح والكفاح والمعاناة والصبر، فكان في يوم من الأيام يقطن الجزيرة بضع عائلات لا يتعادى عددها العشر أسر، وهم يمثلون في مجموعهم سكان الجزيرة الأصليين يعتمدون في حياتهم على مقومات بسيطة وإمكانات مادية متواضعة حيث اقتصر قوتهم على صيد البحر والنخيل، ودخلهم المعيشي عبارة عن مردود رحلاتهم البحرية بمغاصات الجزيرة الغنية والوفيرة باللؤلؤ، ولم يحظ أبناء الجزيرة بالتعليم وإنما اعتمدوا على المطاوعة الذين أشتهر منهم خميس بن سعيد المرر وسيف بن بطحان وهو عالم وفقيه معروف".

ويضيف القبيسي: "توجد أنواع مختلفة من السمك في محيط الجزيرة مثل الشعري والهامور والصافي والفسكرة والبدح والبياح والكنعد وتختلف أماكن تواجد الأسماك بحسب فصول السنة ففي فصل الصيف تجد السمك متواجدا في البحر العميق أما في فصل الشتاء فتجده في الأماكن الضحلة".
ويقول: "تعتبر جزيره دلما في الماضي المركز الأساسي البحري لصيد اللؤلؤ وتذكر السجلات أنه كانت تقوم فيها بانتظام أسواق لبائعي اللؤلؤ اللذين جاؤوا من أقاصي المعمورة مثل أوربا والهند".

ويضيف: "كان غواصو اللؤلؤ يخرجون من كل الإمارات ويتجمعون في سفن الغوص التي تحملهم إلى مغاصات اللؤلؤ حول الجزيرة ورغم وجود مجموعة كبيرة من الطواويش في دبي والشارقة وأبوظبي ويتعاملون ببيع وشراء اللؤلؤ بصفتهم الفردية إلا أن سوق اللؤلؤ المعروف والمشهور في ذلك الوقت كان في جزيرة دلما".