الثلاثاء 21 يونيو 2016 / 00:10

بين داعش والحشد الشعبي: تصحر حضاري في المفاضلة بين شرين

يقوم بناء بعض حكايات التراث على تصوير شخصية ما في لحظة فارقة يكون عليها أن تختار بين أمرين سيئين أو أمرين أحلاهما مر، فتتساءل: ما الأقل سوءا من الآخر يا ترى؟ وكان من الطبيعي أن تتم المفاضلة بين الأفضل والمفضول.

تجري تلك المفاضلة بين الرديئين في ظروف حرجة يمكن أن توصف بأنها إرهاص بانهيار الشخصية الحكائية التي تعاني في العادة من الضياع، والتي لا تجد أمامها إلا خيارات نقيضة لوجودها، ومثل هذه المفاضلة تحتاج إلى منظور واسع لكنها تجيء مرتبطة بالمجالات الأخلاقية، إذ يبدو، وحسب ابن المقفع أنّ التفاضل بين الناس يكون فى مغالبة طبائعهم السيئة، ومحاولة التحكم فيها، ولعل أحد أهم النصوص القديمة في هذا المجال، تلك الحكاية الشهيرة التي تروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع ولديه حمزة وسالم، فعندما أقبل عليهما أبوهما عبد الله، قال حمزة الذي يشعر بأن صوته أحسن من صوت أخيه، فسألا أباهما ليفاضل بين صوتيهما، فغنّيا، ثم سألا الأب قائلين: أيّنا أحسن صوتا؟ فقال الأب: أنتما كحماري العبّادي، أراد عبد الله بن عمر قول الشاعر:

حمارا عبادي إذا قيل بيّنا
بشرهما يوما يقول كلاهما

ولعل عبد الله كان يريد أن يذكر، في رده على ولديه، بقول أبيه عمر بن الخطاب الذي تعرض للموقف نفسه، موقف المفاضلة بين السيئين، فقال مجيبا لمن غنيا: "مثلكما مثلُ حماري العبادي، قيل له أي حماريك أشر؟ قال: هذا، ثم هذا".

لم تعد مثل هذه المفاضلات التي لها طابع الكوميديا السوداء تقتصر على تراثنا السردي، بل تطورت حتى وصلت للمفاضلة بين جماعتين إرهابيتين، إحداهما تجزّ الرؤوس والثانية تفجرها. فقد قامت قناة الجزيرة في منتصف إبريل من العام المنصرم، باستطلاع رأي تفاضل فيه مفاضلة غريبة وتوازن موازنة تبعث على الدهشة، بين داعش من جهة والحشد الشعبي ومعه الميليشيات الشيعية من جهة أخرى، وبغض النظر عما تستند إليه مثل هذه المفاضلة، فإنها توهم بأن العرب لا يستحقون أكثر من أن يفاضلوا بين الأشرين، وعليهم أن ينعموا النظر فيختاروا بين إرهاب وإرهاب، بين تقطيع الرؤوس أو تقطيع الأرجل، وليس المتاح، كما تحاول القناة أن تبرزه سواهما، وعليهم بذلك أن يتمتعوا بالحكمة فيختاروا بين الخراب أو الدمار. ومثل هذه المفاضلة بين الأسوأين قد تكون مسوغة، إذا ما تأملنا الظروف والمصائر الصعبة، التي زلزت بعض الدول العربية، إذ وجدت سوريا والعراق نفسيها ومعهم العرب بين خيارين، كلاهما أسوأ من الآخر، لكن ورغم ذلك فإنهما لا يستطيعان أن يختارا، إذ الخراب لا ينفصل عن الدمار والدمار لا يستل من الخراب. ورغم أن المفاضلة حتمية إلا أنها مربكة، إذ ما إن يحاول سياسي توجيه الاتهام إلى الميليشيات الشيعية في العراق إلا أنه يشعر بالعار عندما يعرف في اليوم التالي ما ارتكبه داعش من مذابح وجرائم، وبالمثل قد يميل سياسي إلى تفضيل الميليشيات الشيعية على داعش، إلا أنه في اليوم التالي يشعر هو الآخر بمزيد من الرعب لتفضيله هذا على ذاك.

وإذا كانت مثل هذه المفاضلات يمكن تفسيرها على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تصبح لونا من العبث الذي لا طائل من ورائه عندما تنتقل إلى الواقع الذي صار يمور بالموت والدمار والخراب القبيح، فهل صار علينا أن نفاضل بين الرمضاء والنار؟ وصار على هذه الشعوب أن يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول؟ كما قال الشاعر العربي يصف العيس؟ أظن أن ذلك من سخرية الاقدار ومن مهازل هذا الربيع الذي جر إلى المنطقة كل عوامل التصحر الحضاري.

لقد مر زمان علينا كنا نعيش فيه مفاضلة بين ثنائيات فكرية تتصل بالهوية كثنائية الجديد والقديم والاصالة والمعاصرة والثابت والمتحول والتنوير والظلامية والعلمانية والدينية والحداثة والأصولية وكان الانقسام ينطوي على خلافات فكرية، أما اليوم فيبدو أنّ السياسيين من الجهتين المشار إليهما قد فتروا في إدانة المنظمات الإرهابية، بعد رفعها شعارات مذهبية، وينبغي هنا أن نتذكر جيدا أن المذاهب كانت ومازالت العباءة التي تمرر من خلالها كافة التعصبات الطائفية والتشنجات الجهوية، وعلى الرغم أن التقليد القديم يشير إلى أن المذاهب رحمة، لكن الوقائع المعاصرة تثبت خلاف ذلك، فهي وقود الاحتراب حتى تثبت التحولات خلاف ذلك، فمن خلال المذهبية التي تدعي احتكار الصواب تنطفيء جمرة الحوار لتتحول وقودا للصراع.

إن ربط الإرهابي بالإرهابي، هو في حالات كثيرة تبرير الإرهاب، و قد أدرك الإرهابي بصورة دقيقة بأن نجاح مخططه الأسود لن يكتب له النجاح طالما ظل يمارس عملياته المخزية وحيدا، لذا ينبغي أن يغادر الخطاب السياسي عثراته هذه، فمما لاشك فيه أنّ الشرق الأوسط يتقدم نحو إرهاب يخشى أن يكون مسوغا له أن يستمر على الأقل شعبيا، والشحن هو معول التقبل العاطفي للانخراط عميقا في أتون العصبيات الضيقة القاتلة.