الأحد 26 يونيو 2016 / 20:04

بريطانيا انفصلت، وماذا عن أوروبا والعالم!

ويتمثل القاسم المشترك بين هؤلاء، على جانبي الأطلسي، في اعتناق أيديولوجيات يمينية، لا تخلو من تحيّزات قومية وعرقية صارخة، وتوظيف الشعبوية السياسية والقومية لاستغلال مشاعر الخوف والإحباط لدى شرائح اجتماعية مختلفة

تعود فكرة الاتحاد الأوروبي إلى قرون مضت، ولكن ترجمتها الجديدة على الأرض كانت خلاصة درس خرج به الأوروبيون من حطام الحرب العالمية الثانية: ضرورة إنشاء هياكل اقتصادية وسياسية لتحويل المصالح المشتركة إلى عائق أمام النـزعات القومية العدوانية والتوسعيّة، وضمان سلام دائم بين الشعوب بوجود حكومات ديموقراطية.

وازدادت فرص نجاح الفكرة في أجواء الحرب الباردة، حين استثمر الأمريكيون، مالياً وعسكرياً وسياسياً، في مشروع إنعاش أوروبا الغربية لتكون عائقاً أمام الدب الروسي الرابض في أوروبا الشرقية، ونموذجاً بديلاً، في نظام الحكم والتحديث والتنمية والحريّات الخاصة والعامة، في الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي بتسميات ذلك الوقت.

وبعد انتهاء الحرب الباردة، اكتملت ملامح الاتحاد، بما فيها الاسم، والهياكل السياسية المُوحّدة، والوحدة النقدية، إضافة إلى ما لا يحصى من القوانين المُوّحَدة، وانفتحت أبوابه أمام القادمين الجدد من أوروبا الشرقية، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وبدا، حتى وقت قريب، وكأنه الدليل الحي والناجح على تراجع القوميات الانعزالية، ومكانة الحدود التقليدية بين الدول في عالم جديد.

ولكن خروج دولة بحجم ومكانة بريطانيا من الاتحاد يضع علامات تساؤل حول مسألة القوميات والحدود، ومدى حصانة النموذج الوحدوي الأوروبي، وقدرته على مجابهة تحديات غير متوقعة. وفي هذا الصدد، يجدر القول إن بريطانيا، التي لم تكن من مؤسسي الاتحاد، لم تكن، أيضاً، من أعضائه المنضبطين، فقد رفضت من قبل الانضمام إلى نظام التأشيرة المُوحّدة (شينغن)، ونظام الوحدة النقدية (اليورو). وفي هذا الرفض تجلت أوهام إمبراطورية قديمة تعزز الخوف من فقدان الأهمية والمكانة، فلندن لا تقبل أن تكون تابعة لبروكسل.

ولعل في أمر كهذا ما يبرر إعادة النظر في مسألة القومية في أوروبا، فبريطانيا وإن كانت الأولى في الخروج من الاتحاد إلا أنها ليست البلد الوحيد، ففي الأيام القليلة الماضية، مثلاً، خرجت أصوات في هولندا وفرنسا تدعو لاستفتاء شعبي على عضوية البلدين في سياق الترحيب بنتائج الاستفتاء في بريطانيا، وعلى أمل محاكاته.

وفي السياق نفسه، عبّر المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمركية، دونالد ترامب، عن سعادته بنتائج الاستفتاء، الذي أقنع المقترعين فيه بخيار الانفصال أشخاص لا يختلفون كثيراً عنه في مواقفهم الأيديولوجية، ونظرتهم إلى العالم. وربما أقنعت نتائج الاستفتاء في بريطانيا المزيد من الناخبين الأمريكيين بمنحه أصواتهم في الانتخابات الرئاسية.

ويتمثل القاسم المشترك بين هؤلاء، على جانبي الأطلسي، في اعتناق أيديولوجيات يمينية، لا تخلو من تحيّزات قومية وعرقية صارخة، وتوظيف الشعبوية السياسية والقومية لاستغلال مشاعر الخوف والإحباط لدى شرائح اجتماعية مختلفة، بعد انهيار الأسواق المالية قبل ثماني سنوات، وتجلي سياسات العولمة في اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.

وهذا، عموماً، ما يختزله المعلّقون الغربيون في تعبيرات من نوع: فقدان الثقة بالنخب والمؤسسات السائدة في أوروبا والولايات المتحدة، وما تجلى في حقيقة أن نسبة كبيرة من رافضي البقاء في الاتحاد الأوروبي من البريطانيين لم يكونوا من فئة الشباب، وحقيقة استغلال شعارات ودعوات اليمين الشعبوية لقضايا الهجرة والإرهاب، رغم أن معالجة الأمرين (وكلاهما ليس أصل المشكلة، بل الذريعة) تستدعي التنسيق والتعاون وتوحيد الجهود، لا الانكماش على الذات، والتمترس وراء الحدود.

ومهما يكن من أمر، النزعة الانفصالية لا تسير في اتجاه واحدة. ففي حين وضع خروج البريطانيين من الاتحاد الأوروبي علامات سؤال حول مستقبله، برزت على الفور علامات سؤال إضافية حول مستقبل الاتحاد البريطاني نفسه، أي المملكة المتحدة، ففي اسكتلندا، وأيرلندا الشمالية، صوّت أغلب المقترعين لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وفي البلدين تعالت أصوات المطالبين بتنظيم استفتاء شعبي للانفصال عن الاتحاد البريطاني. الشاهد أن النزعات القومية والانفصالية تمتاز بحراك خاص، ولا يعرف أحد نتائجها النهائية، وما يمكن أن ينجم عنها في المدى البعيد.

لذا، ليس من السابق لأوانه القول إن الخطوة البريطانية الأخيرة فتحت صندوق باندورا العجيب، ليس في بريطانيا وحسب، ولكن في أوروبا أيضاً، وفي العالم على نطاق أوسع. فهذا الحدث تاريخي بامتياز، وإن تعذّر في الوقت الحاضر رؤية تداعياته في المدى المتوسط والبعيد.

والأقرب إلى الذهن، الآن، أن عودة أجواء الحرب الباردة، وأزمة الاتحاد الأوروبي البنيوية والأيديولوجية، وصعود اليمين القومي بدرجات متفاوتة على جانبي الأطلسي، وافتقار الليبرالية الجديدة المُفترسة لمضامين أخلاقية وإنسانية، وتحديات الهجرة والإرهاب، واشتعال أكثر من نار في العالم، وفي الشرق الأوسط، على نحو خاص، يوحي بدخول العالم مرحلة جديدة يصعب تحديد ملامحها الرئيسة. فالتاريخ، كما في قول شائع لريجيس دوبريه، يدخل الفصل الجديد مُقنّعاً بقناع فصل سبق، فيختلط الأمر على المشاهدين.