الثلاثاء 28 يونيو 2016 / 19:20

مزاعم المفلسين

من يقرأ ويتبصر، يعلم بأن سلامة الأوطان على مدى التاريخ من سلامة شعبها، وهذه هي مسيرة الإنسان على أرضه، الذي يعمل ويتفانى ليبني ويعمّر

منذ فجر التاريخ تنمو دول وتموت أخرى، ولا يبقى شيء على حاله، فمعظم الحضارات القديمة -رغم عظمتها- باتت كما يطلق المؤرخون عليها "حضارات ميتة"، كالمصرية والسومرية والبابلية والآشورية والعيلامية والإغريقية والرومانية، اذ لم يتبق منها سوى بنيان وفنون وآداب، وبالتالي هي الآن ملك الإنسانية. ونحن بالطبع نأسى على ما مضى من عظمة وجمال وتقدم، لكن الأجمل هو استبدال هذا الأسى بالاستفادة من دروس هذا الاندثار وأسبابه. فكما على الأرض حضارات ميتة، هناك أيضاً حضارات حية، لم تمت رغم قِدمها، كالحضارة الهندية والكورية، ما زال أهلها يمارسون كل ما ورثوه كما هي حتى هذه الساعة، دون صيانة مادية لما تعيشه، لأنها محفوظة بمحبة واعتناء.

لكن أن يأتي البعض من تلك الشعوب "الكسولة".. أقول كسولة، لأنها تنصرف عن الجانب الإنتاجي والمعرفي لها، وتهمل ما يمرون به من واقع، وتجلس على أطلال حضارة ميتة.. شعوب تشعر بالزهو لما كان لها من مجد تليد وسيرة عظيمة، يتحدثون بفخر عن تاريخهم ويتغنون به، ولاضير، إذ من حق هذه الشعوب أن تؤدي كل ذلك في مناسباتها الوطنية والخاصة.. لكن أن تتجاوز من يجاورها من أوطان بأقوال قليلة الإحترام، للتقليل من شأنها والحط من مجد عمرها القصير في التاريخ والذاكرة، فهذا ما نستغربه. مدعية بأن لا تاريخ لتلك البلاد كبلده، بادعاء أنها كانت جزءاً من ماضي ظلاله، وتحت حمايته. تناقض في قولها بين أنهم بلا تاريخ وأنهم جزء منه.

هذا الازدراء والتناقض الموجه إلى دول صغيرة الحجم أو قليلة الآثار أو نزيرة التاريخ، هو اعتداء كلامي لن يفيدهم مطلقًا، ولن يفيد الآخر إلا بالضرر في المستقبل إن زاد عن حده، رغم أنه ليس سوى قولٍ خفيفٍ ينم عن حماقة وجبَ الرثاء له، لتبقى بعض الأقوال جرائم، وإن بقيت أقوالاً..

من يقرأ ويتبصر، يعلم بأن سلامة الأوطان على مدى التاريخ من سلامة شعبها، وهذه هي مسيرة الإنسان على أرضه، الذي يعمل ويتفانى ليبني ويعمّر.. فما التاريخ سوى تكدس أحداث فوق بعضها البعض، تَثْقُل حتى تعظم، لتذهب بتراتيبيتها نحو السطور، فيوثق تاريخًا، كما أن معظم الحضارات المعروفة قد بُنيت تحت وطأة التعذيب حتى اختلط الدم فيها بالطين والحجر، وارتفع بناؤها بقوة حملت معها البطش لا الخلاص، فالحروب تقوم على الإستخفاف والاستصغار والانتقاص.

الوطن مكان إقامتنا، فمهما كان مرسوماً بظمأ أو ارتواء، ومهما كان فيه من الفقر أو الغنى، من التصحر والاخضرار، مهما كان مهدماً أو مشيداً.. تبقى للوطن قيمة في القلب، نكبر فيه ونحبه مع معاناتنا وأفراحنا، ولن نشعر بجماله إلا عند فراقه.. سواء وُلدنا فيه أم لم نولد، يبقى هو المأوى والسكن والانتماء.

بحب الوطن نبتعد عن أهوائنا، وآرائنا الخاصة، فلن يعجبنا كل شيء، وهذا لا يعني أن كل ما لا يعجبنا في الوطن نذمه ونخاصم أرضه، بحجة أن القانون لا ينسجم مع مبتغانا، كالتاجر الذي يتملص من قوانين وطنه والذي يعتقد بأن وطنه لا يدعه يطمح ولا يتوسع، أو ذلك الذي يخلط بين حب وطنه ووحي معتقده في أن قوانين بلاده لا تنسجم مع إيمانه وفكره، فيراوغ الوطن..

في داخل الوطن وخارجه، هناك أقوال يقترفها أولئك الذين يتفوهون بحكايات سيئة عن أوطان تجاورهم مُدّعين أنها أقل شأناً وأنها لا تملك تاريخاً كما يزعمون، وكما نرى في عالمنا، وبالذات تلك الدول التي أصبحت تهجو جارتها بالكلام الجارح، تبجل نفسها وتنتقد الآخرين، ترفع من قدرها وتاريخها لتهوي بمن يحدها كل حين وبلا مناسبة.. وبين الغفلة والإدراك، لم نر في النهاية سوى كوارث إنسانية ودمار وأطفال تغلف بالدماء.. وكل ما كان يجري بينهما هو التلاسن والتقليل من شأن أحدهما الآخر.

لكن وهم الحضارة والتاريخ يبقى عند البعض تراثًا يحافظ عليه، مرددًا جملته الشهيرة: "حيث كنّا وَكانَ"، وليته يستبدلها بقول: "حيث نَحْنُ والآنَ".