الجمعة 15 يوليو 2016 / 20:14

هجوم نيس: الإرهاب مصانع الموت المتجددة

نعيش زمن المصانع البشرية للموت، مصانع يتم فيها تدوير النفوس والبشر، لتكون المحصلة النهائية لتلك المصانع إنتاجاً بشرياً، مغسولة الأدمغة، سلعاً بشرية متاحة للاستخدام العدائي العنيف، قنابل موقوتة، معدة إعداداً مدروساً وجهنمياً

 الإرهاب هو توظيف العنف ضد أرواح الأبرياء من أجل غايات أياً كان نوعها سياسية أو عقائدية أو فكرية، إنه العنف الذي يستهدف المدنيين الأبرياء، العزّل في كل مكان وزمان وقد لا يرتبط الإرهاب بأجندة سياسية أو عقائدية ولكن مكونات العمل الإرهابي هي العنف غير المبرر والعدوانية والجريمة النوعية التي تستهدف إزهاق أرواح الأبرياء أو التسبب لهم بخسائر مادية، واستهدافهم بدون أي عذر أو تبرير.

السياق التاريخي الإنساني، يشتمل على أشكال عديدة من الإرهاب الذي استهدف ترويع الأبرياء والزج بهم ليكونوا طرفاً في معادلة كراهية أو مشاعر احتقان، أو نقمة على قانون أو على أداء حكومي أو على نظام، ذلك السلوك البشري الإجرامي حمل أكثر من وجه. إنه الإجرام الذي يستخدم الدين كعقيدة متطرفة أو أيدلوجية فكرية متشددة مهما كان أصلها، أو عنصرية بغيضة آنية أو ازدراء قبيح، أو سلوك مرضي سيكوباتي لمجموعة من الأفراد غير الأسوياء.

ما يجعل الإرهاب خطراً يهدد العالم اليوم ليس مجرد توظيف الدين لخدمة السياسة ولا توجيه الإرهاب توجيهاً دينياً فحسب، ولكن الأمر يفوق هذا الأمر بمراحل كثيرة، ما يجعل الأمر تحدياً حقيقياً للمجتمع الدولي، هو سهولة تجنيد أمثال تلك الفئات، لتكون سلاحاً متوافراً أرخص من الأسلحة التقليدية للقتل والترويع والضغط السياسي أو لمكاسب مهما كان نوعها، تجعل من البشر هدفاً ووسيلة وغاية.

ما يجعل الأمر مخيفاً هو أن العالم أصبح مفتوحاً، وكل من يريد أن يوظف دوافعه الإجرامية أو النفسية أو مشاعره السلبية أو دوافع الكراهية أو النقمة التي يحملها توظيفاً إرهابياً يمكنه ذلك بكل سهولة ويسر، فالمواقع الالكترونية متاحة للتعليم، وللتواصل وللحصول على أفكار جهنمية والتخطيط أصبح يسيراً، والجماعات الإرهابية أصبحت نشطة جداً في تجنيد ضحايا عبر المواقع الالكترونية.

أصبحنا نعيش زمن المصانع البشرية للموت، مصانع يتم فيها تدوير النفوس والبشر، لتكون المحصلة النهائية لتلك المصانع إنتاجاً بشرياً، مغسولة الأدمغة، سلعاً بشرية متاحة للاستخدام العدائي العنيف، قنابل موقوتة، معدة إعداداً مدروساً وجهنمياً من أجل أن توقع عشرات الضحايا من البشر وإلحاق أضرار فادحة وخسائر كبيرة في مواقع سيادية أو مناطق حيوية.

عالم الانترنت أصبح مدرسة لتخريج عتاة الإجرام الجدد من أكاديميي الموت المتخصصين في القتل والترويع والإرهاب والتفجير والموت، والأشلاء، والخسائر، والأماكن جميعها مقتراحات لاستهدافهم،الأرض والجو، والبحر، لا فرق، مساجد العبادة والفنادق والمطارات، والمدارس ومراكز الأمن والنوادي الرياضية، كل مكان متاح ومسموح، مناسبة دينية أو وطنية لا يهم كل المناسبات متاحة أمام خريجي مدارس الإرهاب في العصر الحالي.

لم يعد هنالك تمييز أو تفرقة فيمن يخطط أو من ينفذ، من ينضمون للجامعة الجديدة العالمية المفتوحة للإرهاب لم يعودوا ممن لم ينالوا نصيباً جيداً من التعليم وهم ليسوا من أصحاب الحاجة والفاقة والعسرة المادية، فهنالك من تخرجوا من أفضل الجامعات وممن نشأوا في بيئة اجتماعية ميسورة الحال أو أكثر، وبعضهم من حملة الشهادات العليا، ومن أصحاب المناصب.

ليس الجهل وحده ولا الفقر وحده وليست الأنظمة الديكتاتورية كما يحلو للبعض أن يقول، فها هي فرنسا الدولة الديموقراطية العريقة، تكشف لأصحاب تلك النظرية هشاشة التحليلات وهي تواجه إرهاباً منظماً، نوعياً.

السبب يتجاوز كل ذلك، فمن يضرب أية دولة هم غالباً أبناؤها ، إنه تجنيد منظم وسهولة ويسر في الحصول على المعلومات، وهو الجامعة المفتوحة لنشر أفكار متطرفة ومتشددة، هو تواصل اجتماعي أصبح تواصلاً عدائياً لشحن النفوس وبث الكراهية ،واستنهاض النقمة بكل أشكالها، هو توظيف لضرب الولاء والانتماء والوطنية والعبث بالإنسانية وإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالضمير الإنساني وتجنيد نفوس لا تستطيع مواجهة من يخاطب ضعفها الإنساني ويأسها للبحث عن فكرة الخلاص، أو هو توظيف قاتل لدافع المثالية عند المراهقين، أو هو توجيه لمرض نفسي وعقيدة إجرامية بطريقة تبدو لأصحابها الطريقة المثلى للتكفير عن الذنب أو غسل أيدي المجرمين المتلطخة بأعمال فاسدة مثل المخدرات والسرقة وغيرها، ويبين لها عظمة وشرف العمل القذر الذي يقومون به، إنهجماعات إرهابية لها أجندات سياسية، تخدمها أجهزة استخبارات دولية وتحصل على التمويل والتسليح من دول بعينها تدعمها، تتمدد، وتتوغل وتصل إلى مواطني العالم، بالأذرع الالكترونية التي تتمدد من خلالها والتي تمدها بشريان الحياة، ويظن أن من يدعم تلك الجماعات سيكون بمعزل عن توحشها وإجرامها.

ومن الأسباب تلك السيولة في وضع فرضيات للإرهاب وتعريفاته بحسب المصلحة وتوظيف كل دولة له بحسب المكاسب التي تسعى إليها.
فهنالك إرهاب يتم التغاضي عنه مثل الإرهاب اليومي في العراق، وهنالك إرهاب يتم دعمه تحت أغطية سياسية مثلما يحدث في ليبيا وسوريا، وهنالك إرهاب يتم توظيفه من أجل ضرب استقرار دولة مثل مصر، التي يتم استثمار كل عمل إرهابي تواجهه من أجل تقويض السياحة فيها وضرب اقتصادها.

الإرهاب لا دين له ولا جنسية ولا هوية، إنه إجرام يتم توظيفه بحسب من يقف خلفه والحقيقة الوحيدة في هذا الإجرام الحديث أن الإرهابيين يضربون الآمنين، ويزهقون أرواح البشر، في حروب جديدة وقودها أفراداً آمنين لا ذنب لهم في كل ما يبحث عنه الإرهابي والجهة التي يخدمها والفكر الذي يؤمن به، ولا ذنب لهم في الضجة التي توظف الحدث بهدف المصلحة.

لم تكشف التحقيقات إلى كتابة هذه السطور حقيقة ما حدث في هجوم نيس في فرنسا وأودى بحياة العشرات منهم أطفال سوى أن من قام بالعملية هو من أصل تونسي، ولكن طريقة التعاطي مع العمل الإرهابي الذي استهدف آمنين يجعلنا نتحسر على حال بعض المثقفين، الذين يبررون الجريمة أو أولئك الذين يدافعون عنها ظناً منهم أنهم يدافعون عن الدين وقد تناسوا الحادث الإرهابي في المدينة المنورة وفي الشهر الفضيل قبل أقل من شهر.

الإرهاب أعمى وللأسف من يرونه، يرونه بعين واحدة، ولا يرون الصورة المروعة كاملة له.

ويبدو أن التحدي سيستمر. إنها حروب من نوع جديد ضحاياها الأبرياء. حروب تستخدم استراتيجية مروعة هي: مصانع موت تسمى الإرهاب.