الأحد 24 يوليو 2016 / 19:10

فاتحة القرآن، والصلاة الربانية

سرق أربابُ الفتن ثورتنا الأولى، فاسترددناها، لكنهم مازالوا ينخرون في مفاصل مصر كالسرطان

في بلادي الطيبة مصر، تحتدم الطائفية هذه الآونة، على غير ما سعتِ الثوراتُ وعلى عكس ما صبونا إليه ونحن ساهرون في الميادين نحلم بدولة مدنية عادلة لا تعترف إلا بقيمة "الإنسان"، بصرف النظر عن عقيدته، التي هي شأن خاصٌّ جدًّا، بين الإنسان وبين ربّه. الإنسان كقيمة عُليا احترمها اللهُ تعالى فمنحه العقل/ جوهرة الترقي، ومنحه حرية الاختيار. لكن كما يقول الواقع المُرُّ: "تأتي الثورات بما لا يشتهي الثوار"!

 سرق أربابُ الفتن ثورتنا الأولى، فاسترددناها، لكنهم مازالوا ينخرون في مفاصل مصر كالسرطان، يفرّقون بين أبناء الشعب الواحد، وينهشون بأنيابهم رباطنا الوثيق الذي لن تنفرط عراه بإذن الله. ولأنني أنتمي لعائلة صوفيّة المنزع؛ أؤمن بوحدة الكون، وواحدية الخالق، ورغبته في تعدد سُبل عبادته عبر طرائقَ وعقائدَ عدّة، تصبو جميعُها إلى الإله الواحد الحق. "ولو شاءَ اللهُ لجعلَكم أمّةً واحدة". لهذا تصالحتُ أنا وعائلتي الكبيرة، وأسرتي الصغيرة، مع كافة المعتقدات، لأن الإيمانَ بالله هو غايتُنا، وليس أسلوب الإيمان به. يشغلنا "النورُ" الذي في نهاية النفق، وليس النفق.

في حفل تدشيني لإحدى المجلات الجديدة بمصر، دعوتُ اثنين من أحبّ فنانّي مصر إلى قلبي. صديقان عزيزان، أحدهما مطرب شجي الصوت ذو حنجرة عزّ نظيرها، والثاني موسيقار مبدع سابق عصره قدم لمصر نسغ فنّه ورحيق موسيقاه. وكلاهما مثقف العقل رفيع الخلق.

في ختام الحفل، وبعدما شدا المطرب أغنياته، فاجأ الجمهور بقوله: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدسِ اسمُك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. واغفرْ لنا ذنوبَنا، كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرير. لأن لك الملكَ والقوة والمجدَ إلى الأبد. آمين." هكذا قرأ المطرب المسلم كلمات "الصلاة الربّانية" التي قرأها السيد المسيح عليه السلام فوق الجبل؛ فترسّخت مكانتُه في قلوب جمهوره الذي أدرك مغزى رسالته.

فما كان من الموسيقار المسيحيّ إلا أن نهض عن مقعد العزف على الأورج الكهربائي، واختطف الميكروفون من يد صديقه المطرب الواقف فوق خشبة المسرح، ثم بدأ يقرأ فاتحة الكتاب قائلا: "الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمَن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراطَ المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. آمين." فاشتعل الجمهور تصفيقاً وقد اكتملت رسالة الصديقين الآسرين. اللهُ نورٌ. وكل من يحيا فوق هذا الكوكب من بشر يسعون إلى هذا النور عبر أنفاق عديدة، كلٌّ حسب رؤاه، ووفق معتقده.

كان هذا المشهد المؤثر هو ال Master Scene الذي أجّج مشاعر خمسمائة مصري ومصرية من صفوة المجتمع المثقف من حضور هذا الحفل الذي أقيم على شرف إطلاق مجلة وليدة تهتم بقضايا المرأة المصرية والعربية.

أما المطرب فهو سمير الإسكندراني، وأما الموسيقار فهو هاني شنودة. خيوط عديدة تجمع بين هذين الفنانين المثقفين. ليس أول تلك الخيوط كونهما زميلي مهنة ورفيقي مشوار جمع بينهما النغم العذب والموسيقى الراقية. بل أوّل تلك الخيوط وأهمّها، أنهما مصريان. ولدا، كلاهما، فوق هذه الأرض المباركة، وكبرا، كلاهما، في حضنها الواسع. هي الأم الطيبة، التي لم تفرّق يوماً بين أبنائها، ونحن، بغفلتنا، الذين نُفرّق! ارتويا، كلاهما، من نيلها الخالد، العظيم "حابي". وأكلا، معاً، من ثمرها الحلو، الذي أطعم من قبلهما الأنبياءَ والرسل عليهم جميعاً السلام. وآوتهما، كليهما، غصون أشجار حنون، آوت من قبلهما أجمل وأطهر نساء الأرض، العذراءَ البتول مريم، وطفلَها، رسول السلام، من غلاظة هيرودس وبطشه.

أما أقوى تلك الخيوط الوثقَى، التي تجمع بينهما، وأشدها متانة، فهو كونهما "إنسان". قيمة عليا أن تكون "إنساناً"! فقط حين تدرك مدى ضعفها، تعلو. وإن تماديت في الغلواء وتعاليت، ضعفت وتضاءلت وأغضبت السماء.

الإنسانية هي "العقيدة" الأشمل التي تجمعنا جميعاً، نحن البشر" تحت مظلتها. لماذا أسميها عقيدة؟ لأنها تضعنا جميعاً في الخانة الوحيدة التي تليق بنا، ويجب أن نقف داخلها: جميعنا عباد فقراء إلى الله. هذه المظلة (الإنسانية)، هي التي تنبئنا، نحن البشر، وتنبِّهنا ألا نسيء الأدب ونتجرأ، بمجرد النظر، إلى الخانة العليا التي لا يقف فيها إلا "الله"، وحدَه جلّ شأنه وعلا وتعالى. حين ندرك أننا: إنسان"، لن ندين لكيلا ندان.

 لن يتجاوز أحدنا حدود الأدب، فيقول المرء لأخيه: أنت كافر! لأن كل من تراه كافراً، سوف يراك كافراً بالتبعية. فينتهي بنا الحال إلى بحار الدم.

المطلق الوحيد في الكون هو: (الله)، الذي سيفصل بين عباده. لهذا، دعونا نلتقي حول حبّ هذا "المطلق" الوحيد ونسكب أمامه قلوبنا، ونرجئ "النسبيَّ"، حتى يفصل فيه الله "المطلق"، يوم القيامة.

Twitter: @FatimaNaoot