الأحد 24 يوليو 2016 / 19:01

مراهقون في عالم أرهقه التشدد والعنف وضياع القيم

باتت الحوادث الإجرامية التي يقترفها المراهقون أمرا يشي بالقلق المتزايد سواء على مستوى الأسر أو الحكومات، بعدما تخطّت كونها حوادث ينحصر ضررها على الفرد أو الأسرة لتصبح ظاهرة عامة تستحق النظر والمتابعة، فصارت تربك الأسر وتهز المجتمعات وتصدم الحكومات التي تجد نفسها حائرة أمام هذه الظاهرة: عالم المراهقين واضطرابه شأن أسري أكثر من كونه شأنا حكوميا، وبين الآفاق العامة والأسرية، تتعطل المسؤولية، إذ تقف القوانين عاجزة عن محاصرة تحديات المراهق بالطرق التقليدية، أو تتعالى على هذه المرحلة. ولعل هذا الأمر يتكشف في صورة واضحة أكثر من غيرها في الجريمة الإرهابية التي ارتكبها المراهق "علي السنبلي" في مركز تجاري بميونخ مخلفا أكثر من ثلاثين قتيلا وجريحا، هذه الجريمة التي صدمت السياسيين الألمان، وأصابتهم بالذهول والفزع ومشاعر الألم على مآلات "المراهق" الذي كان سببا مباشرا في مجزرة مخيفة وبشعة، وتعالت المساعي في البحث عن أصول المراهق، التي ما إن عرفت بأنه "إيراني"، مولود في ألمانيا، حتى برزت التأويلات المذهبية والتحليلات المعتمدة على المؤامرة المدعومة بمذهبية دموية غير متسامحة؛ صراع سجالي يريد أن يقول بأن فريقا بعينه أكثر دموية من فريق آخر، ولأول مرة يصبح المراهق ذريعة للكبار ودليلا على تهافت البالغين وبعض المحللين، ولعل قراءة مثل هذه الخطابات قد توصل إلى نتائج تكشف عقدا لا نهائية للأحوال التي وصلت إليها الصراعات الدينية في الشرق الأوسط.

إن قراءة "المراهق" ومحاولة رصد مفهوم "المراهقة" وسلوكياتها وتفسير المجتمعات وحركة التاريخ والسياسة والدين انطلاقا منها ليس أمراً طارئاً أو ليس ضرباً من ضروب البذخ، وإننا في أحيان كثيرة، نفهم بعض الدول والشعوب على وجه أدق من خلال تأمل مراهقيها، ولعل ذلك ما جعل رواية "الصائد في حقل الشوفان" للأمريكي سالينجر أشهر رواية تتناول عالم المراهقين في الثقافة الأمريكية المعاصرة، وكان الروائي الروسي دوستويفسكي تناول الظاهرة نفسها في عمله "المراهق" سعياً إلى تفسير الواقع الروسي، مثلما فعل سالينجر إزاء الواقع الأمريكي، ليس بقادته وسياسييه بل بالاعتماد على "المراهق" ذلك الذي كثيراً ما ينظر إليه الكبار نظرة تبخيس.

لقد ظهر المراهق في العملين المذكورين عنيداً ومثابراً ومتمرداً على الروابط المجتمعية النمطية، ونجد دوستويفسكي يصف المراهق على لسان والده: "ﺇﻧﻚ ﺗﺤﻠﻢ ﺑﺤﻴﺎﺓ ﻟﻬﺎ ﺩﻭﻱّ، ﺗﺤﻠﻢ ﺃﻥ ﺗﺤﺮﻕ ﻻ ﺃﺩﺭﻱ ﻣﺎﺫﺍ! ﻭﺃﻥ ﺗﻤﺰّﻕ ﻻ ﺃﺩﺭﻱ ﻣﺎﺫﺍ! ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻮ ﻓﻮﻕ ﺭﻭﺳﻴﺎ ﻛﻠﻬﺎ! ﺃﻥ ﺗﻤﺮّ ﻣﺮﻭﺭ ﺳﺤﺎﺑﺔ ﺳﺎﻃﻌﺔ، ﺃﻥ ﺗﻐﺮﻕ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻮﻑ ﻭﺍﻹﻋﺠﺎﺏ، ﻟﺬﻟﻚ ﺃﺭﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺃﺣﺬّﺭﻙ ﻷﻧﻲ ﺃﺣﻤﻞ ﻟﻚ ﻋﺎﻃﻔﺔ ﺻﺎﺩﻗﺔ"، ويقول في مكان آخر على لسانها: "الاستقلال وهدوء البال وتحديد المرمى فوائد قد اكتسبتها بفضل اعتزالي وتمزيقي للعلاقات الإنسانية".

ولربما مثل هذه السجالات في مواقع التواصل الاجتماعي، تؤكد بالضرورة بأن المنظومة الأسرية المعتمدة على التقاليد الإسلامية والعربية تعاني من فقر شديد في فهم "المراهقة" وسلوكياتها، لكن الحوادث الإجرامية المتكررة التي بلغت ذروتها مع ظهور داعش تكشف يوما بعد يوم بأن داعش والإرهابيين والمتشددين الإسلامويين أصبحوا أكثر مكراً وفهماً لهذه الشريحة، مما مكنهم على استغلالها استغلالاً شنيعاً، فهي ظلت لغزاً محيّراً في المدونات الإسلامية، ولم يحاول الأسلاف مقاربة مفهومها ولم يهتموا بسلوكيات هذه المرحلة، بالإضافة إلى أن بعضهم الآخر قد اعتبر زورا وبهتانا بأن محاولة تعريفها واكتشافها، ليست إلا مؤامرة غربية تريد الإطاحة بالشريعة الإسلامية، فلم يروا فيها إلا شراً مطلقاً يحدوهم في ذلك أصلها اللغوي، فهي من الرهق أي " الكذب والعربدة والجهل والفاسد والحمق والإثم والسفه والخفة والمرأة الفاجرة وركوب الشر وغشيان المحارم من شرب الخمر ونحوه"، لكن بعضهم بالغ، فصار على النقيض مدعيا وجود نظرية متكاملة في المدونة الإسلامية لمرحلة المراهقة.

لا ينبغي أن ننسى في اللحظة التي تتوالى فيها الحوادث الإرهابية البشعة التي يزج فيها بالمراهقين زجا، تلك المراهقة الإيجابية والبناءة، إذ يماثل المراهقون في أداءاتهم بعضهم بعضها، ضاربين أروع الصور في تخطي حدود الثقافة العالمة والمتعالية، وممتلكين القدرة على بناء أفقهم الأخلاقي المتسامح، الذي لا يتنكر لسلوكه ولا يتعالى على أخلاقيات الآخرين، وهو لديهم القدرة على تجاوز ضوابط التقاليد الصارمة والصلبة التي لم تعد تحتف بهم وبتطلعاتهم، التي جمدت في مكانها ولم تستطع نزع قشرتها القديمة، صار للمراهقة ملابسها الكونية المتشابهة ولغتها الجامعة وطقوسها اليومية الواحدة، ورغم أن "المراهقة" باتت ظاهرة لا ترد إلى جوهر واحد أو حتى إلى جماعة بعينها أي أنها شفرة كونية جامعة منفتحة على التنوع والتعدد، مؤسسة أفقا يتبادل فيه المراهقون الأفكار والمبادئ والتقاليد، ورغم ذلك ونتيجة لقلق الآباء وخوفهم المبالغ فيه قيدوا أبناءهم المراهقين في محيطهم الضيّق الذي لم يعد يتسع لحدود تفكيرهم أو حتى تطلعاتهم، متكئين في ذلك على سرر التراث وأرائك الماضي الجاهزة، التي، يعتقد الآباء، أنها قد تسهم في صقل تجربتهم، فينشأ لدى المراهق ذلك الصراع الخفي، بين الخصائص التراثية الجاهزة وبين شفرات الواقع المتغيرة المغايرة، فسرعان ما تنطفئ جذوة التحول في داخل المراهق وسرعان ما تخبو جمرة التسامح في قلبه وسرعان ما يفقد الثقة بنفسه ليتحول كائنا تقليديا لا يمتلك حيوية الواقع المتغير، أو حتى يصطدم معه، فينفلت من الأخلاق والقيم، ولعل العالم الافتراضي وتوفر المعلومات وسهولة التعامل معها، تجعل المراهق متخطيا عمره الافتراضي، ومربكاً بوعي أبويه، تخطيطاً وممارسة وتنفيذاً، وفي الأحيان الأخرى أكثر وعياً من البالغين.

لقد تمكن الإرهابيون من تشويه المراهقة، يساعدهم في ذلك الفقر الشديد لتجلياتها في التراث أو الدراسات المعاصرة، في اللوائح والأنظمة، في التوعية وفي حضورها إعلامياً وأدبياً، وغياب المتابعة والإشراف من الأسرة، يجعل المسؤولية المجتمعة كبيرة ويضاعف التحديات، مما يشجع الحكومات أكثر من أي وقت مضى، على أن تخطو خطوات وخطوات في سبيل التوعية وحماية جيل المراهقين من إهمال الآباء، وذلك لن يحدث دون إجراءات ونظم، وتنسيق بين المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والثقافية والإعلامية.