الإثنين 25 يوليو 2016 / 21:25

سرقات الرئيس بن علي وميلانيا ترامب

ثلما حصل مع بن علي حصل مع السيدة ميلانيا، وهي تترشح لأن تكون سيدة أمريكا الأولى، في خطابها في كليفلاند

1-
كل قصيدة جميلة تتعرض للانتشار، والتوسّع وذيوع الصيت، ويتمتع صاحبها بشهرة حين تنسب له القصيدة دون غيره، فلا وجود لخطأ في نسبتها لشاعر آخر ولا اعتراض، إلا فيما ندر.

وتنال القصيدة الجميلة تكريماً متواصلاً على مستوى الذاكرة، وحتى نصف البيت الشعري يفوز بشهرة مصحوبة بترحيب من المستمعين والرواة عبر العصور، والناقدين والنساخين، وأهل الشعر قبل كل جمهور آخر.

وفي رحلة القصيدة بين الذاكرة والشفاه والألسن والآذان تتعرض القصيدة أو البيت الى حوادث تصيبها بالتحريفات الطفيفة أو المعارضات، ولكن الجوهر يبقى محفوراً في الذاكرة، وتحافظ القصيدة على أصلها ونسبها إلى شاعرها القائل الاول الأصل، وان السؤال: من القائل، وما المناسبة، يبقى جوهرياً في المجالس القديمة والمعاصرة.

2-
وربما فاز البيت الشعري البيت بإعجاب واندهاش وإشادة من أهل الصنعة من الشعراء، فحاولوا تقليده في معناه، أو تضمينه في قصيدة. وربما تسلل البيتُ بحسن نية إلى ذاكرة الشاعر عند تأليف قصيدته، فأخذ البيتَ الجميلَ كله ونسبه إلى نفسه، ناسياً أو متعمداً، ولقد سمعتُٰ شعراء يضمّنون قصائدهم، أبياتاً لغيرهم وحين سألتهم أجابوا: "هذا البيت معروف لفلان، ولا فائدة من التنصيص على البديهيات". وهو أمر لا يخلو من سوء النية، فلربما اشتهر التضمينُ ونسبوه إلى الشاعر المُضمِّن، ونتناسى الناس الشاعر الأصليّ.

3-
وفي كتاب "العمدة" من تصنيف الناقد القيرواني القديم. ابن رشيق يفرد المؤلف باباً مفصلاً وطريفاً في السرقات، ويجعلها ذات فُوَيْرِقاتٍ محسوسة حيث لا يجوز الخلط بين درجات السرقات المتفاوتة: مثل الانتحال باعتبارها سرقة ذكية، وبين الإغارة التي هي السرقة الموصوفة التي لا غبار عليها ولا إنكار .

4-
ولكن، ليس الشعر وحده هو الذي يتعرض للسرقة، بل كل كلام، وكل تعليق، وكل عبارة اشتهرت في موقف من المواقف التي سارتْ به الركبان، وجرتْ مجرى الأمثال، هكذا وثق الميداني "مجمع الأمثال" ودوّن أبو الفرج الأصبهاني للشعراء والأصوات في كتاب "الأغاني"، ووصلتنا خطبٌ شهيرة ( على سبيل الذكر ) لقس بن ساعدة، والحجاج بن يوسف، وكلمة طارق بن زياد عند فتح الأندلس لجنوده.

5-
وحافظت العبارات القوية في الشعر والنثر على طاقتها في الصمود والنفاذ الى الهدف، وكانت الخطب السياسية الحديثة والمؤثرة هي الأمر الذي يبحث عنه السياسيون في كل العصور.

وتعرضت خطب كثيرة إلى السرقات والانتحال، بل إن البعض قد تعرض الى الإغارة التامة، أي إلى النقل الحرفي، والأمثلة كثيرة. إن جمال الصياغة في العبارة، هو في حد ذاته سلطة روحية وإعلامية لا يغلبها طمس، ولا تعيقها رقابة عن الوصول والانتشار.

6-
وقال الجنرال الفرنسي ديغول عبارة شهيرة حين وقف ليقول للحشود الكبيرة: "أنا فهمتكم" Je vous ai compris
قالها ديغول عندما كان الظرف محتدماً في لحظة فارقة، و كان يريد أن يرضى عنه الطرفان، فلقد رشق ديغول عبارته هذه في دائرة الالتباس بين طرفيْن متناقضين، في لحظة كان الاستعمار الفرنسي يلفظ آخر أنفاسه في الجزائر.

والطرفان هما: الشعب الفرنسي ونزعته في مواصلة الاحتلال للجزائر، والشعب الجزائري ومطلبه في الاستقلال عن فرنسا.

هذه العبارة نفسها،" أنا فهمتكم، "أخذها الرئيس التونسي السابق زين العابثين بن علي، وتصور، أو تصور من كتب له الخطاب أنها كلمة السر القادرة على امتصاص النقمة والثورة عند الشعب التونسي عام 2011، وكان يسأله الرحيل، وقد مل من انتظار حلول لمشاكل مثل البطالة والعدالة، ولم يعد الشعب يفهم عندما صار الفهم في متناول الرئيس...

7-
ومثلما حصل مع بن علي حصل مع السيدة ميلانيا، وهي تترشح لأن تكون سيدة أمريكا الأولى، في خطابها في كليفلاند. لقد أنهى زوجها دونالد ترامب خطابه، ثم ناداها، وكان عليها أن تقول كلمات معدودات مؤثرات تصيب هوى وقبولاً لدى الجماهير الحاضرة بالآلاف، والمتفرجة بمئات الملايين، وتصيب مقتلاً لدى حساد زوجها، وكان لا بد، في جماليات خطبة السيدة الأولى أن تتسم بالإيجاز، فكانت الواقعة: قالت ميلانيا كلمتها، في ايجاز، وانصرفتْ، فاشتعل الضوء في الذاكرة.

8-
ومثلما كانت ذاكرة حفاظ الشعر العربي المحترفين قوية، تلتقط البيت وتحلّله، وتبين مواضع الفرق بينه وبين آلاف الأبيات الأخرى في لحظات، وهي تشبه محركات البحث في أيامنا هذه مثل "غوغل " و "ياهو"، فإن خطاب ميلانيا كان مدعاة شبهة، ولم يمض وقت طويل من التحريات حتى كان نص خطبة السيدة ميلانيا متطابقاً حرفياً، مع خطاب السيدة الأولى الامريكية المغادرة ميشيل أوباما وهو خطابها المساند لزوجها باراك أوباما.

قالت ميشيل كلمتها في نبرة صدق، وهي المحامية المفوّهة الفصيحة، وكان ذلك في حملة زوجها الرئاسية سنة 2008 .
لقد ظنت ميلانيا أنه لن يتفطن أحد الى اختلاس خطاب قصير قيل منذ 8 سنوات. ولكن التاريخ لا يفهم في إسقاط القضايا والفضائح بالتقادم ومرور السنوات .

9-
إن ما لا يمكن تغطيته هو السرقة التي تدل على أن السارق لم يتعلم أي شيء من النص الجميل، فاكتفى بأخذه، ونقله بحذافيره دون مراعاة لعامل النسبية في الحدث، وكان السارق يتصور أن النجاح يكمن في الخطاب وحسب، فهل الخطاب المسروق هو مفتاح؟ وكلمة سر النجاح؟ إن الذي لم يحسب السراق له حساباً هو: إن السرقة الأدبية تبقى جريمة وفضيحة، وعقابها هو الذاكرة التي تلاحق النص المسروق مهما طال الزمن .

ولم يطل الزمن ببن علي حتى انتهى بعد ساعات من تلك الخطبة التي سرق كلمتها الاساسية من الجنرال ديغول . وأما مع ميلانيا، فإن الصندوق الانتخابي الأمريكي هو الذي سيكشف وجه القادم للبيت الأبيض.

10-
ويبقى الدرس واضحاً وفاصلاً بين تداخل النصوص وتمازجها وتفاعلها الخلاق وما يسمّى، في النقد الأدبي الحديث بمبدأ التناصّ من جهة وبين ما سميتُه أنا، ذات مرة "التلاصّ".