الأربعاء 27 يوليو 2016 / 20:54

التطهير

نفس طريقة المتطرفين في القتل على قارعة الطريق. التمثيل بالجثث أو بالكتب كي يخاف الجميع. المهم فعل التمثيل البدائي، التمثيل الوحشي بطرق الحياة الحديثة

من المفارَقَات المضحكة أن الثوريين والنُشطاء والحقوقيين أرجعوا فشل انقلاب الجيش التركي على أردوغان إلى رسوخ تعليم الشعب التركي، بينما خرج علينا عمدة أنقرة مليح غوكشيك بعد أيام من الانقلاب، ليتهم رجل الدين فتح الله غولن، بالوقوف وراء الانقلاب، وأنه يستخدم الجن لاستعباد الناس. يبدو أن الثوريين والنُشطاء والحقوقيين كانوا يقصدون الطبقة الوسطى، وهي طبقة متعلمة في كل دولة، وهي منهارة ومتآكلة في كل الدول أيضاً بفعل المد الوحشي للرأسمالية. إن صمت المتعلمين الأتراك على إجراءات أردوغان التطهيرية بحجة أنهم ضد الانقلابات العسكرية المعادية للديموقراطية، هو صمت على الفاشية الدينية التي ستطالهم بعد حين. أمام أعين الطبقة المتوسطة المتعلمة نزلتْ ميليشيات أردوغان لتدمير مكتبة، وربما مكتبات، لبيع الكتب.

نفس طريقة المتطرفين في القتل على قارعة الطريق. التمثيل بالجثث أو بالكتب كي يخاف الجميع. المهم فعل التمثيل البدائي، التمثيل الوحشي بطرق الحياة الحديثة. خلع أردوغان قناع العلمانية الزائف، وعزل واعتقل الآلاف من مؤسسات الدولة، من جيش وشرطة وقضاء وتعليم. الخليفة العثماني لا يريد قنوات معقدة يسري فيها القرار الرئاسي. يريد فرمانات تهبط من أعلى إلى أسفل بطرفة عين، تهبط مثل الصاعقة على الرعايا. يستعيض عن مؤسسات الدولة، بجماعة أو بحرس ثوري أو بميليشيات لها حق تنفيذ القانون الفوري. المبالغات الفردية من الميليشيات لن يستطيع أردوغان كبحها، لأنها المُكافأة الشخصية الصغيرة للميليشيات. على سبيل المثال، شخص من جماعة أردوغان يرى أن جارته، وهي ليستْ انقلابية، لكنها تلبس ملابس لا تعجبه، فيقتلها على باب العمارة بتهمة أنها انقلابية. وقد تكون تلك المرأة من الطبقة الوسطى المتعلمة التي لاذت بصمت النجاة.

أعلن أردوغان أنه سيدفن الانقلابيين في مقبرة جماعية. لو كان أردوغان يعرف قدراً ضئيلاً من تاريخ النازية القريب لما قال هذا التصريح. هناك في التاريخ الأوروبي القريب واحد اسمه هتلر أقام لأعدائه مقبرة جماعية أو معسكر اعتقال اسمه "أوشفيتز بيركينو". قال أردوغان أيضاً الكلمة البغيضة في ذاكرة الغرب، لا سيما ألمانيا، وهي كلمة "التطهير". تطهير المجتمع التركي من الانقلابيين. عندما اعترف البرلمان الألماني، قبل الانقلاب الفاشل على أردوغان بأسابيع قليلة، أن مليوناً ونصف مليون من الأرمن تمت إبادتهم على يد القوات العثمانية 1915، إبادة جماعية، حذَّر أردوغان من أن هذا الاعتراف سيؤثر بشكل خطير على العلاقات بين تركيا وألمانيا. هل التحذير من طرف السلطان العثماني قد يكون باطنه التهديد والتحريض؟ وما هي الورقة التي يهدد بها السلطان؟ قد تكون الحوادث الإرهابية المتتالية التي حدثت في الأيام الثلاثة الماضية في نواح متفرقة من ألمانيا، إجابة عن هذا السؤال. أفغاني في قطار يطيح ببلطة بالركَّاب. مراهق ألماني من أصل إيراني يفتح النار في مول تجاري على مواطنين. لاجئ سوري يقتل سيدة بساطور في الشارع، ويصيب اثنين آخرين. لاجئ سوري يفجِّر نفسه في مطعم.

هل سيترك الغرب لأردوغان لف أنشوطة الدكتاتورية بنفسه حول رقبته كما فعل صدَّام حسين الذي كان حليفاً لأمريكا والغرب في البداية ثم صار عدوا لهما في نهايتهً؟

هوس أردوغان بتصفية خصومه لا بد له أن يتصاعد أكثر فأكثر. لن يتوقف عند حد. البارانويا ستغذي شكوكه، سيكون هناك المزيد والمزيد من المتآمرين والانقلابيين. الآن الغرب يعترض على النقاط الشكلية، كأنَّ شعوره بالقلق من رغبة أردوغان في إعادة العمل بعقوبة الإعدام، هو ما يزعج الغرب فقط. أردوغان يبتلع الطُعم، ويمشي مع الغرب في السجال، ويصرِّح بأنه سيعرض إعادة العمل عقوبة الإعدام على البرلمان.

وهذا مؤقتاً يموِّه ارتباك الغرب، وهوس أردوغان، أي على الأقل ما زال كيان البرلمان الديموقراطي قابلاً للعمل، حتى وإن كان بشكل كوميديا سوداء، فصور القتلى والتعذيب والأشلاء والإهانة الجسدية أثناء الانقلاب وبعده، أغرقتْ صفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي. وهي صور لا تفعلها سوى جماعات إسلامية متشددة. ويبدو أن الغرب هذه المرة مهدد بالفعل من ذئاب الدواعش المنفردة السارحة في أرضه، وهي ذئاب تعمل في أحيان كثيرة دون توجيه مُباشر، تعمل بإرث كراهية جيني عميق نحو الغرب المستعمر العدواني، تعمل تحت وطأة وتأثير العنف والمُعولم، وفوضى المعلومات والمعرفة المشوهة المبثوثة ليل نهار على الشبكة العنكبوتية. ومن التجربة أثبت الغرب أنه لا يستطيع حماية حياة مواطنيه، الحياة المتحضرة، الحياة الناعمة المترفة في قاعات الموسيقى والسينما والمطاعم والشواطئ. أجهزة استخباراته لا تستطيع منع الحوادث الإرهابية. مُكبَّل الغرب بقوانين احترام الحريات. الإحساس بالأمن ثمرة التقدم والحضارة، ويسهل هدمه من الذئاب المنفردة التي لا تعرف سوى النفي، نفي الآخر، وإلغاء وجوده.