الخميس 28 يوليو 2016 / 19:53

جناية السينما على التاريخ

ولا صلة لأي من هذه المسرحيات الثلاث أو الأفلام الثلاثة بالوقائع التاريخية، التي تتعلق بجرائم ريا وسكينة، أو بشخصية كل منهما الحقيقية

منذ أكثر من عشرين عاماً، كنت أنشر على صفحات إحدى المجلات الأسبوعية فصول كتابي «رجال ريا وسكينة.. سيرة سياسية واجتماعية» عندما اتصل بي هاتفياً، قارئ قدم لي نفسه باسم لواء شرطة متقاعد «إبراهيم إبراهيم حمدي» وأضاف أنه ابن الرائد - اللواء فيما بعد - «إبراهيم حمدي» نائب مأمور قسم شرطة اللبان بالإسكندرية، الذي طارد عصابة ريا وسكينة وأوقع بها.

واستطرد يعاتبني واصفاً ما أكتبه عن الواقعة، بأنه ينطوي على تجن على الحقيقة لأنه يذهب إلى أن الشرطة قد اكتشفت هذه العصابة بمحض الصدفة، ويتجاهل الدور المحوري الذى لعبه والده في الإيقاع بها، عندما اتفق مع رؤسائه، على أن يتنكر فى صورة مجرم تطارده الشرطة، لارتكابه جريمة قتل، ونجح في الانضمام إلى العصابة وتنكر فى صورة بائع سجائر متجول إلى أن نجح في القبض عليها.

ولم أكن في حاجة إلى دلائل على أن ما يرويه، هو ما شاهده على شاشة السينما فى فيلم «ريا وسكينة» الذي أخرجه «صلاح أبو سيف» عام 1953، وقام فيه «أنور وجدي» بدور ضابط الشرطة، الذى أوقع بالعصابة، بعد أن أوهمها بأن الشرطة تطارده لارتكابه جريمة قتل، وهو ما تأكد لي حين أجاب عن أسئلتي قائلاً إن والده قد رحل عن الدنيا عام 1940، وهو لا يزال طفلاً في الثالثة من عمره، وبالتالي لم يسمع لهذه الوقائع منه، بل سمعها من أفراد أسرته.

وبعد مناقشة طويلة، حاولت خلالها أن أقنعه بأن ما ورد فى فيلم «صلاح أبو سيف» لا صلة له بالحقيقة التاريخية، إلا أسماء بعض الأبطال وبعض المواقع، وأنني أستند في روايتي لها، إلى الوثيقة التاريخية الوحيدة المتوفرة عنها، وهي أوراق الجناية رقم 23 لسنة 1920 قسم شرطة اللبان، التي تشمل محاضر الشرطة وتحقيقات النيابة ووقائع المحاكمة وحيثيات الحكم ومحاضر تنفيذه وكل ما دار بشأنه من مكاتبات.. وليس في هذه الوثيقة - التي يتجاوز عدد صفحاتها ثلاثة آلاف صفحة - ما يشير إلى الدور الذي لعبه الرائد «إبراهيم حمدي» في فيلم «صلاح أبو سيف» فى ضبط العصابة، بل هي تؤكد أن الصدفة وحدها هي التي كشفت عن هذه الجرائم، عندما عثر صاحب أحد المنازل التي كانت «سكينة» تستأجر إحدى حجراتها، أثناء حفره فى أرضيتها، بعد أن غادرتها، لكي يوصل مجاري المنزل بالمجاري العمومية بناء على اشتراط الساكن الجديد، فعثرت على جثة إحدى الضحايا، ليكون هذا هو طرف الخيط الذي قاد الشرطة لمزيد من الحفر، لتعثر على عدد آخر من الجثث في الغرفة نفسها، وتقبض على «سكينة» وتحفر في أرضية كل الغرف التي سبق لها - ولشقيقتها «ريا» - أن أقامتا فيها، لتسفر هذه المصادفة عن العثور على 17 جثة للضحايا اللواتي خنقتهن العصابة، وكلهن من النساء ومعظمهن من البغايا، لكي تستولي على مصوغاتهن وتبعنها.. دون أن يكون الأمر في حاجة للخطة الجهنمية التي وضعها الرائد «إبراهيم حمدي» للقبض على العصابة، وهي خطة لم يكن لها وجود إلا في خيال الروائي نجيب محفوظ، والمخرج صلاح أبو سيف اللذين وضعا سيناريو الفيلم.

ولم يقنتع محدثي بشيء مما قلته، وعذرته في ذلك، لأن المصدر الرئيسي للتأريخ لوقائع جرائم هذه العصابة، كان - حتى ذلك الحين - فيلم «صلاح أبو سيف» الذى سبقته مسرحية كتبها «بديع خيري» واشترك معه فى كتابتها وقام ببطولتها وأخرجها «نجيب الريحاني» وعرضت عام 1922، بعد عام من إعدامهما، وهي العمل التراجيدي الوحيد الذي قدمه وفشل جماهيرياً على نحو أقنع الريحاني بألا يكرر محاولة منافسة «يوسف وهبي».

وبعد عامين من عرض فيلم «أبو سيف» واستثماراً للنجاح الجماهيري الذي حققه، عرض عام 1955 عملين دراميين عن الواقعة ذاتها، أحدهما فيلم كوميدي هو «إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة» الذي أخرجه «حمادة عبد الوهاب»، والثاني مسرحية «سر السفاحة ريا»، التى كتبها وأخرجها «عباس يونس» وقامت ببطولتها «نجمة إبراهيم» التي لعبت دور «ريا» فى فيلمي «صلاح أبو سيف» و«إسماعل ياسين» وجاءت المسرحية الثالثة عام 1982، وقامت ببطولتها «شادية» و«سهير البابلي» وكتبها «بهجت قمر» وأخرجها «حسين كمال» ليتلوها في العام التالي مباشرة فيلم ثالث، قامت ببطولته «شريهان» و«يونس شلبي» وأخرجه «أحمد فؤاد».

ولا صلة لأي من هذه المسرحيات الثلاث أو الأفلام الثلاثة بالوقائع التاريخية، التي تتعلق بجرائم ريا وسكينة، أو بشخصية كل منهما الحقيقية، أو الدوافع الاجتماعية التي دفعتهما وأفراد عصابتهما لارتكاب هذه الجرائم، أو المناخ الاجتماعى والسياسى الذى كان يحيط بذلك، وعلى العكس من الأفلام الثلاثة، فإن مؤلفى المسرحيات الثلاث، حاولوا أن يقدموا تفسيرا سيكولوجيا لهذه الجرائم، يتراوح ما بين عقدة نفسية دفعت أحد أفراد العصابة لقتل النساء بسبب خيانة زوجته له، أو دفعت المرأتين لذلك بسبب سوء معاملة زوجة أبيهما لهما، أو دفعت «ريا» لقتل النساء بسبب فقرها ودمامتها وفشلها فى حياتها الزوجية.

أما أحدث الجنايات التى ترتكبها الدراما فى حق التاريخ، فهي مشروع لإنتاج فيلم سينمائي جديد، يستند - كما يقول أصحابه - إلى وثائق جديدة تكشف عن أن عصابة «ريا وسكينة» - التي ارتكبت جرائمها في وقت مواكب لانفجار ثورة 1919 - كانت تناضل ضد الاحتلال، بأن تستدرج الجنود البريطانيين لقتلهم، وأن هذا هو السبب الذي أدى إلى تقديم أفراد العصابة إلى القضاء الذي حكم بإعدام خمسة منهم.

وهو مشروع يثير الضحك، ليس فقط لأن أصحابه لم يقدموا وثيقة واحدة تثبت ادعاءهم، أو لأن ضحايا العصابة - طبقاً لاعترافات أعضائها - كن جميعاً من النساء، وليس بينهن رجل واحد فضلاً عن أن يكون جندياً فى جيش الاحتلال، لكن - كذلك - لأن تعليقات الصحف الوطنية التي عاصرت الكشف عن العصابة، عبرت عن استنكارها البالغ لهذه الجرائم، واعتبرتها سلاحاً يقدمه الذين ارتكبوها للمستعمرين، لكي يؤكدوا بها زعمهم، بأن المصريين لم يبلغوا بعد درجة من التحضر، تجعلهم أهلاً للاستقلال الذى كانوا يطالبون به فى تلك الأيام!