الأربعاء 3 أغسطس 2016 / 19:33

التربية الأخلاقية: نحو أخلاق العلم دون تفريط ولا إفراط

تجد الأخلاق عند العرب اليوم نفسها بين نقيضين أو تهديدين: العولمة التي تفتّ من عضدها وصفائها، وموجات العنف والتشدد الماحقة التي تجعلها أسيرة أوهام لا حصر لها. ففي الأولى يحدث التفريط والانحلال وما يقود إليه من خوف قد يؤدي إلى ضياع الهوية لسبب التداخل الثقافي والهجنة غير المبنية على رؤية مستقبلية تنموية راسخة، وفي الثانية يتهاوى الفرد في الإفراط فيقدس التقاليد ويجد كل ما يناقضها أو يسعى إلى تطويرها إفسادا وانحلالا، فيعيش حياة ملتبسة تلجأ إلى الماضي دون أن تفهمه، وتسعى إلى استحضار التقاليد لا بقصد تجديدها أو إحيائها أو فهمها وإنما من أجل عبادتها.

وظلت الأخلاق في كلا المشهدين ضائعة مضيعة؛ فدعاة العولمة يَرَوْن في الأخلاق عثرة تهدد رؤيتهم، ودعاة التشدد يَرَوْن في الأخلاق ذريعة لتمرير أجندتهم الظلامية، إذ سرعان ما يلوحون بها بقصد الاستقطاب، مدركين أن المجتمعات العربية في طبيعتها مجتمعات تقليدية وفية لأسلافها.

وفي ظل هذين القطبين المتنافرين، بقيت مادة "الأخلاق" صعبة المراس والدرس والتأمل، وبقدر ما ترفع بعض الأنظمة التعليمية في العالم العربي شعاراتها الحماسية إلا أنها، ورغم صدق النية، أوصلت إلى أهداف غير مرجوة، بل أوقعت الأجيال ضحية للفهم السطحي جريا وراء الإغراءات الشعبوية والاستقطابات والرؤي القاصرة، التي تغوي أكثر ما تبني وتبشّر أكثر مما تؤثر. ونتيجة للقصور في الفهم والجدوى غاب علم الأخلاق، ليحل محله وعي زائف به، فقيّد الجيل برؤية قيمية أخلاقية، سرعان ما اتخذها بعضهم، وبأهداف مكشوفة، ذريعة في محاربته للعلم والعقلانية ورفضه الآخر، واصما إياه بتنميطات أخلاقية جاهزة ومنمطة ومفرغة.

وعلى هذا النحو صارت الأخلاق مفرغة من قيمها، والقيم معزولة عن مقاصدها، وأضحت الأخلاق، بمعناها العلمي، نسيا منسيا في سباق التطوير وغرس الرؤى التعليمية العالمية الناجحة، مما قاد بعض التربويين إلى أن يتخذ من التراث، على سبيل المثال، الذي يقوم في أبهى صوره على روح أخلاقية سامية، اتباعا لا قبسا للإبداع، واستسلاما لمعطياته لا سعيا إلى قراءته وتجديد الروح الحضارية العابقة فيه. بل نزعت البنى الأخلاقية منه ليتحول إلى كتلة أيدولوجية يغيب عنها البعد الإنساني الحميمي، ورغم كل ما تعرضت له "الأخلاق" من مقاربات جامدة تقليدية، صمدت وصارت مبتغى التربويين المخلصين وشعلة متوقدة تحتاجها الأمم، خاصة في هذه اللحظة الراهنة التي عزل فيها الشباب عن إرثهم الحضاري النابض بالأخلاق والناهض بالقيم الرفيعة.

ويأتي قرار الإمارات بإعادة الاعتبار إلى مادة "التربية الأخلاقية" قرارا حكيما، خاصة أنه يصدر عن وعي راسخ بأن الحاجة إلى تعزيز الأخلاق باتت أمرا ضروريا لا ترفا، وأن جل ما يواجهه النشء اليوم، وما تشهده المنطقة من تحولات مصيرية، مصدره في كثير من تجلياته أزمة أخلاقية، جعلت العلاقة بين القديم والجديد والذات والآخر والتراث والمعاصرة والدين والدنيا ملتبسة، إذ في الوقت الذي يقدم القديم على الحديث تنهض الخطابات المتشددة والمضللة، وفي الوقت الذي يتحكم الحديث بالقديم، تضيّع الهوية لتقع في ظلمات الهوى والهاوية.

وبهذا المعنى، وتأسيسا على ذلك، فإن رد الاعتبار إلى مادة "التربية الأخلاقية " أو "علم الأخلاق" قد يسهم في فهم الثنائيات الضدية التي يغص بها العالم المعاصر اليوم، وهو مطلب يستحق إنعام النظر فيه لتأسيس رؤية من أجل إعداد منهج نافع يعلي من قيم العصر والعلم ويعزز في الوقت نفسه من القيم التي تتميز بها الهوية الإماراتية القائمة على أخلاقيات التسامح والاحترام؛ إنها هوية بهذا المعنى لا تقوم على "التفريط" ولا تستجيب لإغراءات "الإفراط" الذي أصبح ملمحا من ملامح العالم العربي.

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا، إن رؤية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس مجلس أبوظبي للتعليم، تصدر عن مقاربة وسطية، تتطلع إلى أن ينهض التعليم بمسؤوليته المعرفية جنبا بجنب الأسر التي لها الدور الأبرز والأكبر في التربية الأخلاقية. هذه المقاربة مستمدة من فهم حضاري ينبثق من معطيات الهوية الإماراتية من جهة ومن التراث العربي والإسلامي والإنساني من جهة أخرى، هدف يروم إلى جعل ديمومة الهويات مرهونة بمدى استلهامها قيمها النبيلة الساكنة في إرثها الحضاري دون انفصال عن قيم الحداثة، وهذا يقتضي الوعي التام لا بعلم الأخلاقيات وحده، بل بأخلاقيات العلم التي تقود في المحصلة إلى جملة من الآداب تتأسس عليها معظم العلوم، تلك التي تكمن في محبة العلم والتجريب والمغامرة والاكتشاف وتقدير الموضوعية وفهم الذات والموضوع وتقدير الفكر المنطقي والتفكير الناقد الفاحص والتواضع والبحث الدؤوب والمثابرة والبعد عن الغلو أو التطرف لمبدأ بعينه واحتكار الصواب، والأمانة العلمية والإنصاف مع الاختلاف، وتقدير التقاليد دون الانفصال عن التجديد.

وهكذا فلقد ظلت الأخلاق تستمدّ من تشكيلين في اللغة، فكلمة "الخَلق" إن كانت مفتوحة دلّت على الإبداع وإن كانت مضمومة "الخُلق" دلت على السجية والطبع، ولذلك فإن اللغة العربية، في تمييزها هذا تجعل الأخلاق واقعة بين كونها آدابا متوارثة وأخلاقا مبتدعة في الوقت نفسه، إنها بمعنى آخر اتباع وابتداع، أو كما قال الفخر الرازي في تعريفه للأخلاق بأنها "ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة".

إن بادرة التربية الأخلاقية الإماراتية فرصة سانحة إذن على التعليم الحكومي استثمارها على نحو نافع، بعيدا عن المقاربات التقليدية والتلقين المخلّ والخطب الجوفاء والأمثلة المكررة والشعارات الرجراجة، ذلك لأن للأخلاق علم وللعلم أخلاق، وعلى المنهج أن يفكر بهما مليا تفكيرا عمليا علميا، وفي ذلك تبرز مهمة المختصين والتربويين، ليس في تحويل الأخلاق إلى مادة للتفكير فحسب، وإنما جعلها ملكة يمكن فهمها وتذوقها، وبها ينهض الطلبة وتصدر عنهم كلّما تحلّوا بها الأفعال الجميلة والقيم الحميدة.