السبت 13 أغسطس 2016 / 21:34

ليس بالقوة وحدها تُصنعُ الحضارة

بدأتْ كتابة التأريخ مع بداية اكتشاف الحَرْف والمُدوِّنات .. في الحضارة السومرية لم يقف المؤرخون على ملامحها إلا بعد أن اكتشف علماء الآثار الرُقُم الطينية التي دُوِّنت عليها القوانينُ واليوميات والسير إضافة الى اكتشافهم مسلة حمورابي التي شرَّعت أول قانون أرضي وملحمة كلكامش التي تؤرخ بطولة المحارب الذي يبحث عن الخلود .. وما ينطبق على حضارة بلاد الرافدين ينبطق تماما على الحضارة الإغريقية والفرعونية.

التأريخ الإنساني لم يفقد سلالته الفكرية والتي عادة ما تبدأ بالبطل وتنتهي بالراوية ، على عكس المدونات القديمة الفاقدة لتلك السلالة والتي دعتنا الى تصديق كل من فك طلاسم لغاتها المسمارية والهيروغليفية والإغريقية من العرب والمستشرقين، غير أننا لا نستطيع أن نقرأ التأريخ جيداً دون أن نقف على قراءة أفكار وأمزجة ومصالح مُدوِّنيه ورُواته.

لطالما أدخل اللصوص أيديهم في جيب التأريخ وأفرغوه من محتواه أو كادوا حتى أصبح ثلاثةُ أرباعهِ مزوَّراً وما تبقى مُحرَّفاً والنادرُ هو الصحيح .. ففي الوقت الذي كان وما زال المنظرون والأكاديميون يتنقلون داخله ببوصلاتهم العقلية كي يزيلوا عن جسده مناطقه الرخوة أو يُعيدوا لها صلابتها خدمة للإنسانية كان وما زال الطارئون واللاهوتيون يجهدون كي يُكثروا من تلك المناطق خدمة لمصالحهم .. هؤلاء الذين يتحدثون عن النور وينشرون الظلام كما يقول بير أولوف إينكويست.

العقل هو الأب الشرعي لكل الحراك الإنساني الذي شكَّل ملامح النشوء الأول مع ما رافقه من مأثورات وأساطير، ولكن ماذا سيتبقى من التأريخ لو أننا رفعنا عن جسده كدَمَات الخرافة؟ ربما ستبقى أسماء أبطاله وأغلبهم من صناعة المخيلة الإنسانية التي فصَّلت بطولاتهم فائقة الروعة على مقاساتهم ثم حشرتهم حشرا بين أبطاله الحقيقيين الذين نحتوا تجذّراته بنتوءات أوردتهم المتدفقة!

لم يتحدث أحد عن نهاية الحضارات في حين تحدثوا عن نهاية التاريخ ، فرانسيس فوكو ياما مثلا يعتقد بأن القوة هي من تضع مرتكزات نشوء الحضارة والقوة التي يعنيها فوكو ياما هي التسلح ولهذا انحاز الى الغرب بوصفه آخر الحضارات والى المواطن الأمريكي بوصفه آخر البشر! غير أن التأريخ لم ولن ينتهي عند قدَم أحد.

نبوخذ نُصَّر الملك البابلي الشهير أراد أن يسعد زوجته الملكة إميتس التي كانت تعشق الحدائق وتفتقدها فأمر ببناء الجنائن المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع والتي حيَّرت وما زالت علماء الهندسة إذ كيف استطاع البابليون قبل أكثر من ستة آلاف عام أن يبتكروا منظومة متكاملة لسقي تلك الحدائق وهي على ارتفاع مائة متر من الأرض .. ليس بالقوة وحدها تُصنعُ الحضارة ..