الأحد 28 أغسطس 2016 / 17:59

مشكلة الدواعش مع الديمقراطية!

ليس من قبيل المجازفة القول إن العداء لمفاهيم الوطنية والمواطنة، وكراهية الدولة الحديثة، من القواسم المشتركة بين كل جماعات الإسلام السياسي، ولكن التعبير عنها يختلف من جماعة إلى أخرى

نختم بهذه المقالة ما بدأناه في مقالتين سابقتين من ملاحظات بشأن كتاب "رحلتي إلى قلب الإرهاب" للكاتب والصحافي الألماني يورغن تودنهوفر، الصحافي الوحيد في العالم الذي تمكّن من دخول المناطق الخاضعة لاحتلال الدواعش في سورية والعراق، والخروج منها حياً، في أواخر العام 2014. وما يعنينا، اليوم، يتمثل في ما ورد في الكتاب من نقاشات جرت بينه وبين الدواعش، على مدار عشرة أيام، في الرقة والموصل.

حاول تودنهوفر، من خلال أسئلة متنوّعة، وصياغات مختلفة، العثور على إجابات تشغل الرأي العام، في الغرب على نحو خاص، وفي كل مكان آخر بالتأكيد، من نوع: ماذا يريد الدواعش، ولماذا كل هذا القدر من الدم والرعب والقتل؟ ولكن اللافت للنظر أن الفكرة التي لم ينس أحد من الدواعش التوقف أمامها، والكلام عنها، في معرض الإجابة عن أسئلة مختلفة، ولا تحيل إليها، بالضرورة، هي الديمقراطية، وما يتصل بها من نُظم، وانتخابات، وقوانين.

فالديمقراطية تتجلى في نظر هؤلاء باعتبارها في طليعة الشرور التي تهدد عالم الإسلام والمسلمين. فهي أخطر أنواع الكفر، وكل من يؤمن بها من المسلمين يُعاقب بالقتل. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، أن الغالبية العظمى من الدواعش، سواء من المحليين، أو المتطوعين الأجانب، لا يتمتعون بدرجة عالية من الثقافة والتعليم، ولا يعرفون الكثير عن تاريخ الإسلام.

ومن المنطقي الاستنتاج أن موقف هؤلاء لم ينجم عن تأملات فكرية، أو أزمات وجودية، خلقها حضور الديمقراطية أو غيابها في مجتمعات نشأوا فيها، فهم يرددون بلا تفكير ما سمعوه، من مُنظّري الدواعش، في جلسات التلقين وغسل الدماغ، أو ما قرأوه لهم، على الإنترنت.

لذا، يصبح السؤال الأهم: لماذا يكره منظرو الدواعش الديمقراطية إلى هذا الحد، وما هي مشكلتهم مع الديمقراطية؟

سؤال كهذا لن يكون مفهوماً في معزل عن علاقة الإسلام السياسي الإشكالية بمفاهيم من نوع المواطنة، والوطنية، والدولة الحديثة. فالجنوح الداعشي ينطلق، بالمعنى الفكري، من العلاقة الإشكالية نفسها، ويدفعها إلى الحد الأقصى.

المواطنة والوطنية، في الأزمنة الحديثة، مفهومان ثقافيان، والدولة جهاز للإدارة والمنافع العامة يجسّد المفهومين، ويحمي تجلياتهما التشريعية والقانونية. وفي السياق نفسه، المواطنة والوطنية مفهومان متلازمان، وكلاهما غير قابل للتحقيق خارج فكرة الدولة المركزية، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُولدا مع ولادة الدولة القومية الحديثة (nation-state) في أربعة أركان الأرض على مدار القرون الثلاثة الأخيرة.

وهذه الدولة، بالذات، بما تعنيه من حدود جغرافية وسياسية، وثقافية، لهوية الفرد والجماعة، تمثل التحدي الأكبر، والنقيض، لفكرة الدولة الدينية المُتعالية على التاريخ، والعابرة للحدود الجغرافية والسياسية والثقافية.

وعلى غرار الجماعات التي تنشأ في بيئة أيديولوجية مشتركة، وتسعى لتمييز نفسها عن الآخرين، فإن دفع المنطلقات الأساسية إلى حدودها القصوى، يمثل خياراً مغرياً في نظر الدواعش، إذ يعفيهم من عناء الاجتهاد النظري من ناحية، ويمكنهم من الادعاء بأنهم الأكثر جذرية في تمثيل الأصول (أي جوهر أيديولوجيا الإسلام السياسي) من ناحية ثانية.

ليس من قبيل المجازفة القول إن العداء لمفاهيم الوطنية والمواطنة، وكراهية الدولة الحديثة، من القواسم المشتركة بين كل جماعات الإسلام السياسي، ولكن التعبير عنها يختلف من جماعة إلى أخرى. نجم الاختلاف في حالات بعينها عن خصوصيات محلية في هذا البلد أو ذاك، ولكن تداخل العوامل الإقليمية والدولية، في الصراع على هوية الدولة والمجتمع في العالم العربي، وتحالفات الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، مع قوى إقليمية ودولية، أسهمت في خلق وتعدد أوجه الاختلاف.

وبهذا المعنى يتجلى دفع الدواعش للمنطلقات الأساسية للإسلام السياسي، إلى حدها الأقصى، كمحاولة لحسم الصراع على ولاء المخدوعين بأيديولوجيته، واحتكار تمثيله، والنطق باسمه، وهذا لا يتأتى دون اتهام الآخرين بخيانة الأصول.

لذلك، يفعل الدواعش ما يحاول الآخرون تأجيله إلى زمن "التمكين". ولا فرق بين هؤلاء وأولئك إلا في التوقيت، ودرجة الوضوح، وبراعة ارتداء وتبديل الأقنعة. وهذا، على الأقل، ما تنم عنه جملة الإجابات التي قدمها الدواعش في الرقة والموصل، وعبّروا فيها عن كراهية للديمقراطية، التي ينبغي أن تكون في ذيل اهتماماتهم وهمومهم النظرية لا على رأسها.

فمَن يرفض الأزمنة الحديثة، والدول القائمة، وعلمها، ونشيدها، وقوانينها، وحدودها السياسية، وهويتها الثقافية، لا تعنيه مسألة الديمقراطية، إلا بقدر ما تبدو كوسيلة إيضاح للتدليل على معنى الأصول، واحتكار تأويلها، وحق النطق باسمها.