الأحد 28 أغسطس 2016 / 17:40

مسجد وإمامتان.. هناك شيء مشرق في الدنمارك

بعد مرور نحو سنة على النقاشات العميقة في الدنمارك بخصوص محاصرة "أئمة الكراهية ودعاة الحروب"، تخطو الدنمارك خطوة نوعية إلى الإمام لم تقدم عليها بلاد المسلمين، فقد تم في العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، افتتاح مسجد خاص بالنساء، وأقيمت صلاة الجمعة الماضية فيه لأول مرة في تاريخ البلد الإسكندنافي، ولم يفت الدنمارك أن تعين إمامتين للمسجد، إذ رفعت إحداهن الأذان وما إن انتهت حتى احتشدت على إثره العشرات من المصليات، فتقدمت من بعدها الإمامة الأخرى لتخطب بالمصليات من النساء ثم تقوم بمهمتها بإمامة المصليات في مشهد تهفو له القلوب وتقدره العقول.

كانت خطبة الجمعة في هذا المسجد النسوي بعنوان "المرأة والإسلام في العصر الحديث"، لتصبح المرأة مرسلة ومستقبلة، حاضرة في المستويات كافة: امرأة تؤم نساء وتخطب عن شؤونهن، في تكريس حيوي لحضورها، شكلاً ومضموناً، مبنى ومعنى. وفي المشهد العام، فالخطبة رسالة من النساء قوامها قراءة حية للمدونة الفقهية المعاصرة الذكورية الطابع في كثير من الأبعاد، ترفض فيها المرأة أن تكون خارج السياق الفقهي، وتسعى لدمج قضاياها ومشكلاتها النسوية في المدونة الفقهية الذكورية تلك التي لا يتحدث فيها إلا الفقهاء، وكأنهم يعدون المرأة فضلة ملحقة بالذكور على نحو يشبه الحال عند النحاة العرب، فيتحدث الذكور فيها عن المرأة باسم الذكور وإلى الذكور وبين الذكور، لتبنى الخرافات والأساطير حولها، وتظل هي بلا حول ولا قوة، لا تنبس ببنت شفة. ومن المؤسف أن تظل أبيات الشاعر الجاهلي طفيل الغنوي ترسم أبعاد هذا التصور عن المرأة في الذهنية الذكورية:

إن النساء كأشجار نبتن معاً
منهن مرُّ وبعض المرّ مأكول

إن النساء ولو صُورن من ذهب
فيهن من هفوات الجهل تخييل

إن النساء متى يُنهين عن خُلق

فإنه واجب لا بُدَّ مفعول

يظهر أن النساء في المسجد الدنماركي اتخذن قرارا بقلب المشهد الذكوري هذا رأسا على عقب، وتقديم نموذج مختلف، تتحدث فيه المرأة للنساء عن النساء وإلى النساء وبين النساء في مفارقة دراماتيكية، هدفها إحياء التراث الإسلامي الحق وتقاليده التي باتت مهددة بالانقراض.

نتذكر اليوم، ونحن في سياق المبادرة الدنماركية هذه، المقولة الشهيرة لمفتي الديار المصرية الأسبق الإمام الراحل محمد عبده التي يقول فيها بعيد زيارته أوروبا عام 1881: "ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكني لم أجد إسلاماً".

كان الإمام في مقولته ذائعة الصيت هذه يقارن بين ما كان عليه الغرب من إتقان في العمل وإخلاص في التنفيذ وجودة في الأداء وما كان عليه المشرق الذي يفتقد حسب رأيه الإتقان سواء في العمل أو العلاقات التي تربط الأفراد ببعضهم بعضاً، إن الغرب بمعنى آخر قد أخذ فكرة الإحسان في العمل من الإسلام وعمل في ضوئها بعد أن تخلى أصحابها عنها.

وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان على مقولة محمد عبده يبدو أن الدنمارك تعيد قراءة مقولته من جديد، لتقول للشرق: عندنا مسلمون وعندنا إسلام... إدراكاً منها بأن مقولة الإمام قد فهمت أولا فهما خاطئا من المسلمين أنفسهم في الشرق، عندما اعتقدوا بأن الوضع في الغرب لم يتغير منذ زيارة الإمام قبل قرن ونيف، بل بقي على ما هو عليه، فظنوا أنهم أوصياء على الغرب في المعتقد، بل أن بعض المتشددين ذهب بعيداً مستغلاً المقولة لأغراضه الأيدولوجية محتكراً الصواب، متعالياً على الآخر، مدعيا بأنه في مهمة مقدسة لتعليم الغرب الإسلام الحقيقي. وخرجت أصوات تستعير من الغرب كل شيء ثم تزعم بأنها أستاذته وهي تمتلئ بحقد الآخر وازدرائه.

لكن الغرب تغير عما كان عليه في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح أشد تعقيدا من مقولة الإمام، ومع ذلك يعتقد المتشددون أن هناك مسلمين بلا إسلام، وهذا يسوغ لهم أن يحددوا للمسلمين في الغرب مسار هويتهم وأفق شريعتهم وطريقة عبادتهم وسلوكهم ومعاملاتهم، وبما أنهم مسلمون بلا إسلام فعليهم إذن أن يقتبسوا إسلامهم من فتاويهم المحملة بالكراهية ورفض الاختلاف ونبذ قيم التعايش داخل المجتمع.

إن الخطوة المتقدمة التي قامت بها الدنمارك، ليست إلا إحياء للتقاليد الإسلامية الأصيلة التي تشهد تراجعاً مشهوداً في الشرق، فلطالما تحدثت المدونة التراثية عن النساء ودورهن في إمامة المسلمات، وكانت السيدة عائشة، رضي الله عنها، من علماء الصحابة ومن مفتيهم وهي أفقه نساء الأمة على الإطلاق وقد نقلت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علما كثيراً، وقد روي أنّ مشيخة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأكابر كانوا يسألونها عن الفرائض، فقال الزهري:" لو جمع علم عائشة إلى علم جميع العالمين المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل".

إنّ هذه المدونة التي تقصّد المتشددون أن يسدلوا عليها ستار النسيان أو أن يعطلوا مفعولها وأثرها، استطاعت الدنمارك بخطوتها هذه أن تبعثها من مرقدها وتغرسها في الوجدان، وكأنها قد أعادت قراءة مقولة محمد عبده وفي الوقت نفسه أرادت أن تذكر المسلمين في الشرق، بأن ثمة تراثاً إسلامياً قد بدا يتلاشى، وقد آن الأوان أن يقوم الغرب بإحيائه طالما أن أهله قد فقدوا القدرة على المبادرة واستكانوا للمعطيات الجاهزة التي لا تمثل إلا وجها أحاديا من الإسلام، هذا الإسلام العظيم الذي لا يمكن اختزاله في عنصر سطحي واحد، إنه بهذا المعنى يرفض أن يكون أحادياً لأنه قام على التنوع ويرفض أن تكون هويته جامدة لأنه هو نفسه من ابتكر الهوية الحيوية المتغيرة الصالحة لكل زمان ومكان.

لقد أحيت الدنمارك بمبادرتها هذه تقاليد الإسلام الأصيلة، أما أوقاف بلاد المسلمين فظلت منشغلة بما يجوز ولا يجوز، وبـ "حدثني من أثق به قال"، لكن ورغم ذلك، تبزغ إمامة المرأة من المدونة الإسلامية القديمة، لتشرق على الغرب وتغيب عن الشرق، في ملمح زاه من الاسلام المتعدد والمتسامح، لكن من غيّب هذا الملمح كان وما يزال يصدر في ممانعته هذه عن المركزية الذكورية المتسلطة التي يخشى عليها من التفكك والانحلال، لا سيما وأن حجج الممانعة لا تستند إلى نصوص دينية وإنما تنبع من تقاليد ذكوريّة ولدت خارج الممارسات الدينية. فإذا كانت العبارة الشكسبيرية "هناك شيء نتن في الدنمارك" قد طارت مثلاً، فبعد هذه الخطوة الرائدة أصبح في وسعنا أن نقول بكل ثقة: هناك شيء مشرق في الدنمارك.