الخميس 15 سبتمبر 2016 / 16:55

محمد بن زايد في الفاتيكان: إعادة الاعتبار لقيم التنوع والتعدد

يأتي لقاء صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ببابا الفاتيكان في لحظة أحوج ما يكون فيها العالم إلى إعلاء قيم المحبة والتسامح التي باتت مهددة اليوم، ولا حاجة للتذكير بأن مستقبل المنطقة بات في خطر محدق، ودون إعلاء لقيم التسامح والتعددية سينجرف أكثر في الغياب والموت والدمار. ويبدو أن هذا الأمر وحده ما يجعل إعادة التشييد الفكري في المنطقة ضرورة لا غنى عنها، إذ سقف القيم قد تهشم وسطحه أضحى مهدماً، وتحتاج القيم بذلك ليس إلى ترميم فحسب بل إلى إعادة بناء وتشييد على قواعد صلبة بلبنات جديدة تعلي من قيم الحداثة والتنوع والتعدد، وتضع الجسور القوية بعد أن انزلق العالم العربي في جرف هار، منقطعا عن تراثه الأصيل، وذلك لا يتطلب مثلما أكد ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الذي يزور الفاتيكان اليوم إعمارا فحسب، وإنما قبل كل ذلك، وأول خطوة لتحقيق ذلك ليس دحر الجماعات الإرهابية فقط، بل الصدور أولاً وأخيراً من اعتقاد راسخ بأن هذه الجماعات إجرامية لا علاقة لها بدين أو عرق أو منطقة جغرافية.

ويظهر أن زيارة الشيخ محمد بن زايد للفاتيكان تريد أن تقول بأن دولة الإمارات ماضية بحزم في ترسيخ التعددية وقبول الآخر وتعزيز آفاق التسامح، إذ التعددية ليست كلمة مفرغة من معناها والتسامح ليس شعارا يَفتقر إلى دلالة، بل هما أساسان قويان ترتكز عليهما الإمارات، وستعمل لا بالجمل الفضفاضة، بل بالمبادرات القادرة على أن تحول قيم التسامح إلى سلوك لا ينفصل عن الإرث الحضاري القائم على المحبة ولا ينقطع عن الحاضر المؤسس على التنوع والاختلاف مما أكسب الإماراتيين القدرة على الذهاب إلى المستقبل دون خوف وتردد وعقد.

وتأسيساً على ذلك، فإن الزيارة رسالة محبة وبناء لجسور الحوار والتلاقي في الوقت ذاته، فالأديان تبني ولا تهدم وتجمع بني البشر ولا تفرقهم، ولعل هذه الميزة التي تصدر عنها الإمارات جعلتها مثالا حيا للتعايش السلمي والحضاري بين جميع الأديان والأعراق، وما اللقاء إذن بين الشيخ محمد بن زايد وبابا الفاتيكان وزيارة بابا الفاتيكان المتوقعة إلى الإمارات إلا ترسيخ لهذه القيم النبيلة الراسخة في التاريخ الإماراتي الذي ظل عبر أزمنته كافة يبغض التشدد والتطرف ويقوض البنى الأيدولوجية التي تقود إلى الوعي الزائف. ولابد من القول هنا إن النموذج الذي شيدته الإمارات للتعايش، ليس نموذجا حالما، وإنما مدعوم بقوانين تكفل لأكثر من مائتي جنسية تتواجد على أرض الإمارات أن تعيش بمحبة ووئام، وليس التفاهم الذي يجمع كل هذه الجنسيات إلا تجليا عبقريا يعلي من شأن الاختلاف ويمقت التماثل، ويحرص على التنوع الخلاق لا النمطية والتكرار الممل، وما يجعل ذلك متمتعا بالديمومة تلك القوانين التي تصون التنوع والتعدد وتتيح لجميع الأعراق العيش المشترك وممارسة العبادات المختلفة، ويأتي على رأس ذلك قانون "مكافحة التمييز والكراهية" وقانون الإرهاب اللذان وضعا حدا للتشدد والتطرف وتعاملا معه بوصفهما إجراما وآفة لابد من اقتلاع جذورهما.

لقد بات اليوم التنسيق الدولي عاجزاً عن مواجهة العنف، فالمنطقة بحاجة ماسة إلى أن تتصدى للإرهاب بنفسها، وتضيق عليه الخناق وتحاصره، فما حك جلدك مثل ظفرك، تحتاج إذا دول المنطقة أن تبادر فعلاً لا قولاً وعملاً لا تنطيراً، وذلك ما سيجعلها قادرة على إيجاد آلية عمل دولية جديدة لمحاربة الإرهاب والتصدي له، وبقدر ما تبدأ الدول بالمبادرة مثلما تفعل الإمارات اليوم، فإنها قادرة على تقويض مصادر التطرف والتشدد الفكري والأيدولوجي، ولست أجانب الصواب إن قلت بأن الشيخ محمد بن زايد أدرك ذلك مبكراً، فأطلق البادرات الثقافية والتعليمية لبناء الهوية الإماراتية المناهضة للفكر المتشدد، صناعة الإيمان النابع من الذات، إيمان يجعل الأفراد ينبذون التطرف والتشدد في شتى أشكاله ومختلف مظاهره وتجلياته.

لقد أثبتت الوقائع والأحداث بأن التأصيل الثقافي لقيم التسامح منذ الطفولة في الإمارات قد أتى أكله، وأن تجربة الإمارات الثقافية في هذا المجال، وأقصد تربية النشء على قيم التسامح وقبول الآخر، تجعل دولة الإمارات مؤهلة أكثر من غيرها إلى أن تقود المنطقة في حوارها مع الآخر، ليس بفضل المؤشرات والسياسات التي يمكن سردها والتمثيل عليها فحسب، بل بفضل نجاح الإمارات في غرس الحصانة الذاتية في الإماراتيين والمقيمين على أرضها تلك التي تجعلهم يرفضون التشدد والتطرف مهما تستر خلف شعارات دينية ومهما تخفى وراء تنظيمات إسلاموية زائفة.

وبذلك فإن لقاء الشيخ محمد بن زايد ببابا الفاتيكان يؤكد الموقف الثابت لدولة الإمارات الذي سيظل يصون قيم التسامح وثقافة الانفتاح على الآخر لأنها وحدها صمام الأمان، في منطقة يكاد يخلو منها الأمان، وحتى يتحقق ذلك على دول المنطقة أن لا تحمل مشكلاتها الذاتية وتعلقها على الغرب، بل ثمة ما يمكن أن ينجز في هذا المجال، والآخر ليس بإمكانه التعاون لدحر الإرهاب طالما لم تضع هذه الدول نفسها البادرات الناجعة لدحر الفكر المتشدد والظلامي، وأصبحنا اليوم على درجة كبيرة من الاقتناع بأن دوافع الصدام بين الأمم لا تنشأ بسبب اختلاف المصالح المادية فحسب، بل تنامي الثنائيات العصبية الثقافية والفروقات الشكلية بين الأديان الذي تغذيه بعض الجهات الدولية والتنظيمات الإرهابية أصبح عاملا جوهريا في الصراع والاحتراب والكراهية، وحتى تستعد دول المنطقة للحوار مع الأديان الأخرى عليها أولا أن تمتلك القدرة، مثلما فعلت الإمارات، على دحر تلك الجماعات المتشددة الذي تريد أن تختزل المسلمين في وجه جامد أحادي وتنزع عنهم كافة أوجه التنوع والتعدد، وعلينا قبل أن نعترف بتنوع الأديان الاعتراف بالتنوع داخل الإسلام نفسه الذي يريد بعضهم اختطافه.

إننا وإذ نحتفي اليوم بزيارة الشيخ محمد بن زايد للفاتيكان ولقائه بالبابا فإننا في الوقت نفسه نتذكر ما قدمته الإمارات من نموذج خلاق للتعايش، نموذج سيظل مصدر اقتداء وازدهار، وفي ازدهاره هذا واستمرار مسيرته التنموية لا يتوقف عند الإنجازات مكتفياً بها، وإنما يتمسك بالبحث عن آفاق آخرى تمضي به أكثر وأكثر صوب الانفتاح الذي لا تصمد التنظيمات الإرهابية على تهديده وتشويه صورته أو سمعته، ومع ذلك فإن الإمارات بقيادتها وشعبها تدرك ضرورة الاستمرار في المواجهة التي لا تعترف بالخطط الجاهزة وإنما تريد بناء تجربتها الخاصة دون تعالي على المعطيات المحلية، كما أنها تحرص دوماً على الاعتراف بأن هناك الكثير مما يمكن فعله وتقديمه، فالنماذج الجاهزة والتقليدية لا يمكنها اليوم محاصرة التطرف والتشدد لأنه أضحى معقداً للغاية سرعان ما يغير استراتيجياته ومقارباته كلما شارف العالم على اكتشافها.