الإثنين 26 سبتمبر 2016 / 19:05

لا تتفلسف... بل تفلسف!

الفلسفة ليست أرقام في جدول الضرب ولا هي عناصر كيميائية في الجدول الدوري

ذات يوم كنت أحتسي القهوة مع أحد الأصحاب وفجأة سألني لماذا "الفلسفة" منتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي؟ ثم أردف بسؤال أكثر أهمية وهو ما هو تعريف الفيلسوف؟ فقد سمع عن حَجَر الفيلسوف وهو يشاهد مسلسل الأنمي الياباني fullmetal alchemist... وهو الحَجَر الذي كان يبحث عنه "سانتياغو" في رواية "الخيميائي"... فهل الفيلسوف هو ذلك الإنسان الأصلع المنكب على كتبه وورقه والمستغرق في التفكير بالمسائل المعقدة؟

ربما تكون هذه هي الصورة التي في أذهان الناس عن الفيلسوف... لكن الحقيقة أن الفلاسفة هم بشر مثلنا يبحثون دائماً عن إمكانيات جديدة للمعرفة، يسافرون إلى الأراضي المجهولة التي لم تطأها رِجْل آدمي من قبل لفهم الأشياء التي نسميها نحن ب"مستحيلة"، يكتشفون أسرار الوجود من خلال البحث والتجربة... يهمهم إعادة النظر في "الواضح" و"المُسَلّم" و"البديهي" ليتعرفوا على اضطراب الأفكار في عقول الذين اطمأنوا إلى صحة أفكارهم بسبب أنها أفكارهم...

شبّه "ديكارت" رأس الإنسان بسلة تفاح فيها التفاح الفاسد والسليم، فلكي تستكمل المعرفة شروطها يقوم الفيلسوف بفرز هذه التفاحات على الطاولة ويعيد للسلة السليم منها فقط... هذه الغربلة هي جزء من المغامرة الفلسفية... كل ما علينا هو قطع العلاقة مع القناعات البديهية التي تعشعش في أذهاننا، ولا يعني ذلك رفضها كلها بل إبقاء الصالح منها فقط... وأعظم ما قاله سقراط هو (إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً)...

هل تريد أن تتلقى الفلسفة؟ ستكون مخطئاً كما يقول "روجيه بول دروا" في كتابه (فقه الفلسفة)، فالفلسفة ليست أرقام في جدول الضرب ولا هي عناصر كيميائية في الجدول الدوري... فهي لا توجد في أي مكان ولا يحصرها كتاب في فلسفة أو حَجَر في يد فيلسوف... فإنه لا يوجد فيلسوف واحد متفق مع جاره أبداً... فالمهم هنا هو القيام بالنشاط الفلسفي الذي يسمونه "التفكر" و"التأمل"... فالتفكير كتناول الطعام لا يستطيع أحد أن يقوم به بالنيابة عنك... ستجد عند الفلاسفة أدوات مؤثرة ولكن لن تجد عندهم أفكارك الخاصة بك... فأفكارك لا يصنعها لك أحد، بل هي في رأسك فقط وليس في مكان آخر... كل هذه الجهود البشرية الضخمة -من أمهات كتب ونظم فكرية مطروحة- قد تساعدك في الذهاب إلى أبعد مكان وبأسرع سرعة ممكنة... لكنها لن تحل مكانك في التفكير... يتمثل عمل الفلاسفة في تعرية الذين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء ونزع الأقنعة عن وجوه الذين ينشدون إرضاء الناس وإغرائهم بانتصارات فكرية زائفة... فكما يقول سقراط، إن الأفضل من الظهور بلباس أنيق يخفي ضعفاً وهزالاً هو جعل غذائنا صحياً، هذا الغذاء هو الأفكار الجيدة في أذهاننا... والتي عادةً تُخرجنا من عاداتنا الفكرية السيئة وتستبدل أفكارنا كما يتم استبدال الألبسة المُهترئة...

تستطيع الاستعانة بدعم من سبقوك لتبدأ... لكن لا يليق بك أن تعيد وتكرر نفس الأفكار التي طرحت... أن تعتمد على نفسك في التفكير لا يعني أن تنطلق من نقطة الصفر أو أن تقول أي كلام يخطر على بالك أو تؤمن بأي فكرة تجول في خاطرك... ستصاب بالدهشة والحيرة والاضطراب إزاء الكم الهائل من الأفكار المطروحة والتي يعلكها الناس من حولك، وقد تختفي في ذهنك نقاط الإرتكاز التي كنت تستعين بها في توجيه أفكارك... كل هذا سيحدث... لكن الأهم هو التجربة التي ستخوضها... إنها مغامرة خطرة لكنها تستحق العناء... فالشك مشروع جداً شريطة أن تُبين أسباب شكك... عادة نحن لا نريد أن نغير ما نحن عليه من راحة وهدوء، ولا نريد للشك -الذي هو بعوضة مزعجة- أن يوقظنا من أحلامنا كي نواجه حقائق ربما تغير نمط حياتنا... نحن نريد الحصول على "المعرفة الجاهزة" ولكننا في نفس الوقت نخشى على أنفسنا منها... ولا ننسى أن هناك أفكاراً لا يمكن تصورها فاعرف حدود عقلك، فلا تستطيع تصور الدائرة مربعاً فهذا تناقض صارخ في خيالك لا تنقله إلى غيرك...

تبدو الفلسفة النظرية مُجردة في الخيال كما هي الأرقام الرياضية المطبوعة في أذهاننا، ولكنها شديدة الوضوح عند الحديث عن أمثلتها أمامنا... فلِنُفكر فلسفياً علينا أن نجرب أفكارنا بطريقة محددة ولا نخشى الغموض الذي يبدو لنا من الوهلة الأولى... فغاية الفلسفة كما يقول "فيدجنشتين" هو جعل الأفكار الغامضة والمبهمة واضحة ومحددة... الجميع قادر على امتلاك القدرة الضرورية للخوض في مجال الفلسفة لأن الجميع قادر على الإدراك والتمييز بين ما هو غامض وما هو واضح، بين ما هو حقيقي وما هو زائف، فالجميع يمتلك هذا الحس السليم وهي مَلَكة بشرية غير محصورة بطبقة أو فئة من الناس... إذ الذكاء لا يأتينا من الخارج لكنه قابع في داخلنا وعلينا أن نُحسن استخراجه واستخدامه...

الفلاسفة يهتمون بالمسائل العلمية كما يهتمون بالفنون والسياسة والأخلاق والتاريخ والسعادة والجمال والرياضيات والعدالة والحكمة واللاشعور وحقوق الإنسان... هم لا يتحدثون عن هذه العلوم كما لو أنها مواضيع للتسلية ولا يعملون في حقولها كالعلماء الذين نذروا أنفسهم لذلك... هم يسألون عن تعريف العلم وأهدافه وكيفية التعرف عليه...