الأربعاء 28 سبتمبر 2016 / 19:55

وفاة بيريز أم وفاة البيريزيّة؟

السياسيّ الذي يقدّم نفسه في إسرائيل، وخصوصاً في أوروبا، مثقّفاً ومتابعاً دؤوباً للمسائل والسجالات الثقافيّة، علماً بأنّ كثيرين من نقّاده الإسرائيليّين يشكّكون بثقافيّته ويصفونه بـ "المدّعي الذي يحبّ رمي الأسماء الكبيرة"

أحد أقرب تلاميذ ديفيد بن غوريون في السياسة واليسار العمّاليّ، كما في كتلة "رافي" الحزبيّة والبرلمانيّة. وسيط التسليح النوويّ للدولة العبريّة من خلال فرنسا. مُحاور منظّمة التحرير الفلسطينيّة ثمّ المشارك، إلى جانب رفيقه ومنافسه اسحق رابين، في هندسة اتّفاق أوسلو معها عام 1993. نائل جائزة نوبل للسلام، بمشاركة رابين والزعيم الفلسطينيّ ياسر عرفات، عام 1994. الداعية إلى "شرق أوسط جديد" تحلّ فيه التنمية التعاون محلّ الحروب والعداء. الرجل الذي حصلت مقتلة قانا في ظلّ قيادته السياسيّة. السياسيّ الذي يقدّم نفسه في إسرائيل، وخصوصاً في أوروبا، مثقّفاً ومتابعاً دؤوباً للمسائل والسجالات الثقافيّة، علماً بأنّ كثيرين من نقّاده الإسرائيليّين يشكّكون بثقافيّته ويصفونه بـ "المدّعي الذي يحبّ رمي الأسماء الكبيرة".

شمعون بيريز، البولنديّ الأصل الذي رحل عن عالمنا وهو في الثالثة والتسعين، هو هذا كلّه معاً. لكنّه، قبل ذلك وبعده، آخر معاصري إسرائيل منذ نشأتها في 1948، وأحد أكثر الذين تولّوا مناصب رسميّة عليا فيها، بما في ذلك رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهوريّة.

وبيريز يمكن تشبيهه بسياسيّ آخر من جيله بالمعنى العريض للكلمة (ولو كان يصغره بـ 13 سنة): إنّه فريديريك وليم دي كليرك الذي كان من أبرز أقطاب النظام العنصريّ في جنوب أفريقيا، إلاّ أنّه، ومنذ تولّيه رئاسة الحكومة في 1989، بدأ يتجاوب مع المستجدّات الداخليّة والإقليميّة، وخصوصاً الدوليّة الناجمة عن انتهاء الحرب الباردة. هكذا انتهى المطاف بدي كليرك شريكاً للزعيم الأسود نيلسون مانديلاّ في تفكيك النظام العنصريّ في بلدهما.

شيء من هذا لاحت إشاراته في اتّفاق أوسلو. لكنّ الأمور، كما بات معروفاً، اتّخذت منحى بالغ الاختلاف:

- من جهة، تنامى التحريض والضغط اليمينيّان المصحوبان بالتوسّع الاستيطانيّ اليهوديّ، وفي السياق ذاته اغتيل اسحق رابين في أواخر 1995 على يد الإرهابيّ المتعصّب إيغال أمير.

- ومن جهة أخرى، تعاظمت العمليّات الإرهابيّة التي تشنّها الأطراف الراديكاليّة الإسلاميّة، مدعومة من نظام الأسد في سوريّا، كما من إيران وحزب الله.

وترافق هذا الانكماش في العمليّة السلميّة مع تطوّرات ثلاثة كبرى:

فأوّلاً، شرعت التحوّلات الديموغرافيّة المتلاحقة تحاصر الكتلة الأشكنازيّة الغربيّة لصالح السفارديّين الشرقيّين والروس،
وثانياً، ترافق انخراط إسرائيل الواسع في الاقتصاد المعولم مع صعود للتوجّه النيوليبراليّ في الاقتصاد، الأمر الذي واكب تحوّلاً مماثلاً في معظم البلدان الغربيّة، جاعلاً الاقتصاد القديم وكيبوتزاته شيئاً من الماضي،
وثالثاً، كان للتطوّرين أعلاه أن انعكسا انكماشاً واضحاً في قوّة اليسار العمّاليّ الصهيونيّ، خصوصاً مع الافتقار إلى قيادات من صنف قيادات الرعيل الأوّل.

وكان بنيامين نتانياهو المعبّر الأوّل والمستفيد الأوّل من هذه التطوّرات الكبرى، مصحوباً على الدوام بقوى اليمين الاستيطانيّ والأكثر راديكاليّة. وبدل الانتقال التدريجيّ إلى "ما بعد الصهيونيّة"، على ما كانته الحال في مناخ أوسلو وبُعيدها، سادت العودة الفخورة إلى البدايات العسكريّة للصهيونيّة المقاتلة.

أمّا جنوح منطقة الشرق الأوسط في عمومها إلى مزيد من الطغيان والعنف والتعصّب فاستكمل الذرائع التي يتطلّبها ذاك اليمين لإدامة سيطرته وتوسيع نفوذه: فالمنطقة – بحسب اللغة الأكثر رواجاً – لا تُحكم إلاّ بالسيف، ولا يُعاش فيها بالتالي إلاّ بالسيف. وغنيّ عن القول إنّ هزيمة الثورات العربيّة وتفسّخ بعضها إلى حروب أهليّة تتعاظم فيها قوّة الأطراف التكفيريّة وحضورها، ليسا عاملاً مشجّعاً. فهؤلاء الأخيرون هم كسب صافٍ للقوى الدينيّة والاستيطانيّة في إسرائيل، والعكس بالعكس.

هكذا يموت شمعون بيريز في الوقت الذي ينطوي معه تماماً زمنٌ كان يمكن للبيريزيّة أن توجد فيه.